“مساء فلسفي” ضمن اختتام الدورة الـ29 من المعرض الدولي للنشر والكتاب، حاول أن يقترب من “تمرد” المفكر والفيلسوف والمترجم عبد السلام بنعبد العالي على النمط الكلاسيكي في الكتابة، وتفكيكه من خلال تدشينه طريقا خاصا به في الكتابة الفلسفية المغربية والعربية، يلاحق نبضات الحياة المعاصرة التي “تجمع بين اليقين والارتياب”.
وفي اللقاء الموسوم بـ”عبد السلام بنعبد العالي، الفلسفة المعاصرة والتفكيك وبلاغة اليومي”، الذي جمع أسماء مرجعية في المشهد الفلسفي المغربي الراهن: عادل حدجامي ونبيل فازيو وعزيز الحدادي، فقد تناول كل واحد من “الثلاثي المحب للحكمة” تجربة هذا المفكر في الكتابة؛ وكانت له في النهاية الكلمة التي واصل فيها دفاعه عن البريكولاج وعن اليومي والأشياء الصغيرة.

مثقف لا يدعي النبوة
عادل حدجامي، أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة محمد الخامس بالرباط، قال إن أهم ما عند عبد السلام بنعبد العالي، وهو بالمناسبة “ثاو” عنده ولم يخرج إلى التصريح به (…)، وهو كونه مشغولا بسؤال عملي جدا هو ما معنى أن نكتب اليوم؟ وما معنى اليوم أن تستمر في الكتابة مع أنك ترى في الواقع كل الأسباب التي تقول لك لا تكتب؟.
وسجل حدجامي، وهو يتحدث عن أستاذه سابقا وشريكه في ترجمة “خارج الفلسفة” لجيل دولوز، أن هذا المفكر “لم يكتب رأسا لرأس في هذا السؤال الذي قلت إنه الأهم عنده”، مشيرا إلى أنه “في محاولة الجواب عن هذا السؤال، يعمل بنعبد العالي على أن يجيب عمليا بأن يكتب نصا مختلفا، نصا قصيرا يمنح جوابا شكليا أوليا”، وزاد: “ثانيا هو نص مختلف، هو فلسفة وأدب وشيء يومي ومعرفة مضادة في الآن نفسه، هو جدل، هو مطبخ، وأكاد أقول تمرينا”.
وكشف الجامعي أن هذا التشبيه يعود إلى المحتفى به في “اللمة الفلسفية”، قائلا: “حين كان يدرسنا، الجواب الذي وجده لهذا الأمر هو عوض أن تعطي نتائج التمارين الرياضية للطلبة مارس في الكتابة محاولتك في الجواب. ولذلك، هناك ملاحظة، وهي أنه عندما نقرأ نصوصه تكاد لا تؤدي إلى شيء. هي مخاض. النصوص كلها مخاض وغليان وتمارين. وهذا الأمر يحير عددا من القراء الذين ينتظرون النتيجة. والحال أنها تمرين”.
واعتبر المتحدث أن “الأهم أيضا عند بنعبد العالي أنه اليوم لا يمكن أن تكتب للناس المعرفة بمعناها القديم، أي أن تكتب بأسلوب الويكيبيديا، التي أحالت كل أصحاب المضامين على التقاعد. فلن تجد عند هذا الفيلسوف معلومات من قبيل ولد فلان سنة كدا أو أنه كان رجلا طيبا.. فما يقال في نصه ليس مضمونا. لماذا؟ لأن المضامين منذ أن صارت المعرفة بهذا الشكل المخيف الذي ترونه منتشرة لم تعد شيئا يُطلب”.
وتابع مضيفا: “أعتقد بأن نصه في الكتابة هو نص ضد النص القديم أو ضد النص الكلاسيكي؛ هو نص مضاد. ما معناه أن الكتابة اليوم لا يمكن أن تكون إلا كتابة ضد الكيف الذي كان يُكتب به سابقا. وإذا كانت الكتابة ليس تحصيلا للمعرفة أبدا وليس استعراضا لها، فمن يكون الكاتب؟ وهنا عمق التراجيديا. الكاتب اليوم ليس كما كان، نبيا يحمل دعوة للآخرين”.
وفي ما يراه أستاذ الفلسفة المعاصرة، فإن بنعبد العالي “يقف نقيضا لأسلوب المثقف النبي، أو أسلوب عراب القبيلة الذي سيصعد إلى الجبل ليقول للناس ما الذي ينبغي فعله. المشكل هو أن الناس اعتادوا هذه الصورة عند المثقف. اعتادوا المثقف النبي والمثقف الذي يعرف ما الذي ينبغي فعله”، وزاد: “هو في ما يكتبه يؤزم هذا الأمر. لهذا يخرج القارئ بنوع من خيبة الأمل لأنه لم يجد “الينبغية”. بنعبد العالي ليس رجل إيديولوجيا ولا عرابا لها إطلاقا”.

محب للحكمة والحياة
الكاتب والأكاديمي عزيز الحدادي قال: تربطني ببنعبد العالي صداقة طويلة لأنه كان دائما يأتي إلى فاس من أجل الفرح المأساوي، كنا نعيش معا مع ما نسميه بـ”الديونيزسيا”. عاشَرنا في فاس لمدة عشر سنوات وكنا نحضر في ندوات مع عظماء الفلاسفة، وكلهم كانوا يحبونه”، مشددا على أن “تلك الندوات حينها كانت تؤسس لمغرب جديد.. مغرب العقلانية”.
ولم يُخف الحدادي أنه وجد نفسه “محرجا”، حيال “هل سيتحدث عن بنعبد العالي الفيلسوف أم عن بنعبد العالي الذي يجرنا نحو الحياة لأنه يحبها وورطنا في هذه المتعة.. هذا التوريط الجميل”. وقال: “هو متمرد على كل شيء إلا عن شيء واحد وهو محبة الحكمة ومحبة الحياة، ولذلك يتصرف مع الناس وكأنه لا يفهم ولا يتصرف مع الناس وكأنه لا يتكلم”.
وتابع المتحدث قائلا: “ما من مفكر أشد إخلاصا للصداقة والمحبة من الفيلسوف الذي يسبر الأغوار في طلب الحقيقة دون أن يبالي بما يعرفه من مصاعب. وبعض الفلاسفة لا يجدون قراء إلا بعد مرور سنوات عديدة؛ والبعض الآخر يفقد ما عنده من قراء بعد مرور وقت قصير”، متسائلا: “في أي خانة سنصنف الفيلسوف الذي نحتفي به اليوم؟ وبأي معنى يمكن لهذا الكلام أن ينطبق عليه؟ هل ينتمي إلى الصنف الأول أو الثاني؟”.
وواصل الحدادي أسئلته مستفسرا: “لماذا يدفعه التواضع إلى اعتبار نفسه بريكولور؟ أي انطلاقا من كتابه “بريكولاج”؟ ألا يكون قد ألقى بنفسه في الحلم والثمالة عندما أصبح ديونيزسيا؟ أنا أجده أحيانا يهرب عن نفسه ولا يعرف حتى نفسه وينسى بأنه اسمه عبد السلام بنعبد العالي، وهذا هو معنى الديونيزسيا؟”، وزاد: “لماذا يكون الفيلسوف شغوفا بالعزلة وكتابة رسالة الوداع إلى الجمهور، إلى المدينة الجاهلة؟ فأحيانا نبحث عنه وربما لا نجده في الرباط”.
وأجمل قائلا: “هو فيلسوف.. والفيلسوف يعيش بالسخرية والتهكم؛ يعيش بالفرح والحزن، بالعقل واللاعقل؛ الموت والحياة. الحب والكراهية، فهل يوجد في المذهب الديونيزسي الذي يبشر به بعد موت نتشه؟ إنه نتشوي بالماهية، فهو يلبس معطف نيتشه. يكتب بالشذرة، يحاور بالسخرية وينصت بتهكم. (…) جعل من الفلسفة وسيلة للعيش والصداقة محبة… والخير يوزعه بيننا”.

رجل بعقلين
نبيل فازيو، أستاذ باحث في الفلسفة السياسية والدراسات الاستشراقية بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، انطلق من سؤال كان “يخامره” وهو يقرأ كتب بنعبد العالي في زمن ما: “من منا يخرج من هذه الكتب كما دخل إليها أول مرة؟ من يستطيع أن يدعي أنه خرج من كتاب “أسس الفكر الفلسفي المعاصر” كما دخل إليه، أو السؤال نفسه عن كتابه عن الفارابي؟”.
ورجع فازيو، وهو يفكك فلسفة بنعبد العالي، إلى لحظة اللقاء الأول والصدمة الأولى بكتابات هذا المفكر، وبمحاضراته كأستاذ “استطاع أن يفرض أسلوبا خاصا ليس فقط في الكتابة وإنما أيضا في التدريس”، لافتا إلى أن “الطالب في تلك المرحلة كان يجد نفسه أمام تقليدين، بل وعليه أن يختار بين هذين التقليدين، فإما الفكر الذي ينصب على التراث وعلى مجالات التراث وتعقيداته، وإما الفكر أو الكتابات التي تهتم بالفكر الغربي الحديث والمعاصر”.
ووضح الأكاديمي أنه في غمرة هذا السياق، اكتشف الطلبة الباحثون أن كتابات صاحب “الكتابة بالقفز والوثب”، تمثل “نصوصا تفكر مع نيتشه وهايدغر وفوكو ديريدا، بل وتفكر مع الفارابي أيضا والتراث الفلسفي”، مضيفا أنها كانت نصوصا في الوقت نفسه “لا تدعونا إلى تعلم ما قاله هذا أو ذاك، وإنما تستطيع توظيف كل هذه المرجعيات الفلسفية لكي تجعلها مرجعيات نتساءل بها عن أسئلة أدركنا أنها تعنينا”.
وتابع فازيو: “نقرأ كتاب أسس الفكر الفلسفي المعاصر، فنجد صاحبه يجر إشكالية التقنية والهوية والوحدة والاختلاف والتكرار والأركيولوجيا والتفكيك ويحولها إلى أسئلة تعنينا نحن أيضا. فندرك أننا أخطأنا الطريق عندما صدقنا أولئك الذين قالوا لنا منذ البداية إن هذه أسئلة تهم فقط الفكر الغربي، وأن أسئلتنا نحن بعيدة كل البعد عن أسئلة هؤلاء”.
وأورد أنه “فجأة اكتشف الطلبة صدفة، ربما، أن الرجل لم يبدأ منذ البداية بالفلسفة الغربية المعاصرة، وإنما كان قد بدأ بدراسة الفلسفة الإسلامية، بل سنكتشف أيضا أن جل دارسي الفارابي إلى يومنا هذا ما زالوا يرجعون إلى كتابه المرجعي عن “الفلسفة السياسية عند الفارابي””. وزاد: “وأنا شخصيا كنت دائما أطرح هذا السؤال وأنا أقرأ له ما يكتبه عن المفكرين الغربيين، كيف يتجاور في ذهنه الفارابي وأسئلته مع هيدغر والتقليد الذي ترتب على مقاربته الفلسفية؟”.
وسجل المتحدث أن الفيلسوف استأنف تفكيره الفلسفي، ولكن بـ”أسلوب جديد ربما يسمى اليومي أو بلاغة اليومي، وأنا أفضل تسمية أخرى وهي فلسفة الأشياء الصغيرة”، مؤكدا أن “قراءة الكتب التي يتحدث فيها عن هذه تخترقها أسئلة من قبيل: هل هذا اعتراف بأنه آن الأوان لكي تشفى الفلسفة من حمى تغيير العالم؟ أم أن الاهتمام باليومي هو نتيجة اقتناع بنعبد العالي بأن المهم والأفضل والأنسب ليس تغيير العالم وإنما فهمه لأن العالم أكبر منا ولعله أكبر من فلسفتنا”.

دفاعا عن البريكولاج
حين تناول الفيلسوف عبد السلام بنعبد العالي الكلمة بعد كل المداخلات، شدد على أنه سيعالج بعض النقاط؛ لكن ليس كرد “حتى لا يجعل ما قالوه يمتد كما يقول دولوز”، فانطلق بما أثاره الحدادي بخصوص “البريكولور”، معبرا عن “دهشته” عند سماع توصيف المتواضع يرافق البريكولور، يعني وضيع أو شخص “غير كايقْضِي”.
ودفاعا عن تصوره، قال المفكر المغربي الفائز بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، في دورتها الثامنة عشرة منذ أسابيع، إن البريكولور “سيدي ومولاي”، وليس “رجلا منهزما”، ثم عاد إلى جبة الفيلسوف فورا وقال: “البريكولور في نص ليفي ستروس يقابل المهندس المتمكن من تقنية أو من معرفة الطبيعة؟ يعني متمكن من العقلانية التي تسود الطبيعة ومن علاقة العلة بالمعلول التي تضبطها”.
وزاد: “البريكولور أقوى من ذلك لأن عقلانيته من صنعه، يعني هو يذهب إلى حد أن يرى عقلانية في اللاعقلانية، أن يرى انتظاما في اللامنتظم يعني الأشياء التي لا يمكن مبدئيا أن تعقلن، أي أن تُربط في علاقات دالية رياضية، هو يستطيع مع ذلك، وبالرغم مما توفره الأمور، أن يبتدع عقلانية منتصرة، وليست وضيعة أو مهزومة. هو ماشي “كايلبق”، بل هو يكتشف ويخلق.
ومر الأكاديمي إلى ما أثاره حدجامي بخصوص الكتابة، أو “لماذا أكتب على نحو مكتوب؟”، مشيرا إلى نقطة عدها شخصية، وعبرها عنها بالتعبير التالي: “أنا أكتب علاجا. وأعتبر أن الكتابة هي نوع من المقاومة لعبث الوجود لشرور العالم. الكتابة، هي انتصار على مستوى النص ضد أشياء. فهي نوع من العلاج النفسي والأنطولوجي. وأركز على أنها ليست علاجا نفسيا فحسب”.
وأضاف: “أكتب لإيجاد نوع من المعقولية، ربما في عالم لا معقول وفي علاقات لامعقولة. أكتب أيضا ملاحقة لنبضات الحياة المعاصرة”، لينتقل بسلاسة إلى ما تحدث عنه فازيو، موضحا: “تهمني الأشياء الصغيرة فعلا، أو ما سموها ببلاغة اليومي. لماذا؟ لأنها هي الكيفية التي تعمل بها الإيديولوجيا في حياتنا المعاصرة؛ لم تعد الوظيفة الإيديولوجية هي التي تقلب الأمور، أو كما كنا نقول في زمن ما مع الماركسيين “تصبغ الأمور”، أي أن تجعل الظلم خيرا وغير ذلك”.
