قصة زاوية أثمرت مدينة، يحكيها “كتاب بديع” جديد يقول: “اختار الشيخ أبو عبيد الله محمد الشرقي مكانا موحشا وغير مأهول لتأسيس الزاوية الشرقاوية أواخر القرن العاشر الهجري. وقد تبوأت منذ نشأتها موقع الصدارة ضمن أهم الزوايا بالمغرب، وتحولت بسرعة على يد المؤسس من رباط ديني صغير إلى تجمع عمراني يضم مختلف الأعراق، ومركز علمي يوفر للطلاب والزائرين والعابرين المأوى والإطعام والأمان”، قبل أن تصير “أهم مركز علمي في وسط المغرب ما بين فاس ومراكش”، وتصبح معها “بجعد” المدينة الوحيدة في عموم المغرب التي “لم يكن لها قط، على امتداد تاريخها، سور للحماية، لعدم جرأة أي كان على انتهاك حرمة حمى الزاوية”.
جاء هذا في “كتاب بديع” جديد صدر باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، بعنوان “أبي الجعد-أرض التصوف والروحانيات”، عن منشورات “آكسيون للتواصل”، بإشراف لحسن حداد وسعد الحصيني، والاستشارة العلمية لمؤنس الشرقاوي، وصور تيدي سوغان وجمال المرسلي الشرقاوي، والإدارة التقنية لكمال الحصيني، والإدارة الفنية لكل من محمد بن لحسن وياسين بن لحسن.
يضم هذا العمل نصوص باحثين هم: رشيد العابدي، كنزة العلالي، محمد بلعربي الشرقاوي، عبد المجيد بوكاري، أحمد بوكاري الشرقاوي، مؤنس الشرقاوي، محمد الشرقاوي البزيوي، عبد العالم دينية، بوعبيد البرازي، مصطفى الحر، لحسن حداد، جمال الحجام، عبد الكريم جلال، يهودا العنكري، محمد التهامي الحراق، محمد السموني، فؤاد سويبة، فاطمة الزهراء تابع، محمد التويجر، ومحمد ازريعة.
يعرّف الكتاب بتاريخ مدينة “أبي الجعد” المرتبطِ بعمران الزاوية الشرقاوية، ودور هذه الأخيرة في مقاومة هجمات الاحتلال الأجنبي البرتغالي والإسباني، ومساهمتها في دعم زعامات دينية وسياسية وطنيا، ويسلط الضوء على التراثَين المادي وغير المادي للمدينة، وكنوز المكتبة الشرقاوية، والمدارس العتيقة، وعلمائها، وشخصياتها الحديثة، وحياتها الاقتصادية، وحياة الأقليات المغربية غير المسلمة بها وأثرها فيها. كما يعرّف
ويوثّق جزءا من تراث المدينة في السماع الصوفي، ويعرض “بجعد” بعين الباحثين والرحالة الأجانب.
ويركز “الكتاب البديع” على “دور الزاوية، المركز، في التطور الاجتماعي والعمراني لهذه المدينة وقد برزت نواتها الأولى مع استقرار الشيخ الشرقي هنالك، خلال القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي”؛ “ففي (وادي أبي الجعد) الذي اشتهر بمجال رعوي كان يستقطب الفلاحين من منطقة تادلة وجبال الأطلس المتوسط، عزم الشيخ الشرقي على أن يبني مسجدا للتعبّد، في وقت ازدهر فيه التيار الصوفي الجزولي الشاذلي”.
ويعرف هذا العمل بنشأة الزاوية الشرقاوية وبالدور الذي لعبته، على امتداد خمسة قرون، على مستويات علمية وصوفية واجتماعية، مكنها من إفراز إنتاج فكري وروحي وعادات وتقاليد محلية هي “فن عيش”؛ فـ”الزاوية الشرقاوية أغنت التراث اللامادي، الفكري والروحي، بالمنطقة.”
ويستحضر المنشور الجديد الدور العلمي والصوفي الذي لعبته الزاوية، وما رافقه من “تطور عمراني، أفرز مدينة عتيقة تزخر بمعالم تعكس تطور فنون المعمار وتضاهي بنايات تراثية شهيرة على المستوى الوطني. كما تم تصنيفها كمعالم تاريخية لها رمزية دينية ومدنية”، أهمها “ضريح الشيخ المؤسس محمد بوعبيد، والمسجد العتيق، ودروب المدينة من حوله”.
هذه المدينة ذات الطابع الديني الصوفي “فتحت صدرها للوافدين الذين استقروا بها وساهموا في إغناء ثقافتها، ومن بينهم العديد من المغاربة الذين يدينون باليهودية، والذين رافقوا تطور المدينة من النشأة إلى اليوم”، في واقع “أغنى ذاكرة جماعية بصمت أبهى اللحظات المشتركة بمعالم تراثية صمدت عبر التاريخ، كالبِيَع اليهودية والمقبرة وأضرحة بعض الصلحاء الذين كانوا محط تقديس من طرف العديد من البجعديين مسلمين ويهودا، ومن أبرزها ضريح (الباز كباي) وضريح مولاي غيغاي وضريح رابي لوي هلو”.
ويتابع “الكتاب البديع”: “حين قال الناصري في كتابه (الاستقصا) إن أبا عبيد الله الشرقي كان من أكابر أهل وقته… وإن زاويته كونت مجموعة من العلماء والأولياء، فإنه لم يستثن النساء اللواتي اشتهرن بالعلم والورع، وخصصن بيوتا لتعليم الفتيات، كالعالمة لالة رحمة الإدريسية، والدة بوعبيد الشرقي، وحفيدتها لالة هنية، بنت الشيخ المعطي”.
ومن بين ما ينبه إليه العمل عدم اقتصار دور الزاوية الشرقاوية على الشقين الديني والاجتماعي، بل “كان لشيوخها ومريديها دور بارز في تعبئة السكان للذود عن وحدة البلاد ومواجهة الغزاة وتحرير الثغور”، كما كان لها “دور في النهوض بالنشاط الاقتصادي للمدينة، عبر السعي إلى حفر الآبار، وغراسة البساتين، وتنظيم قنوات الري من نوع الخطارات، وإنشاء مطاحن الحبوب ومعاصر الزيت، وخلق (أمراس) لخزن الحبوب وضمان تنقلات قطيع الماشية لمواطن الرعي (العزيب) وتطوير الحرف والصنائع، كتصنيع الخشب وتصديره وتصنيع الجير والجلود والصوف”.
أدوار الزاوية الشرقاوية هذه قادت إلى “تعزيز التكافل بين القبائل، وتحويل أبي الجعد إلى محطة للقوافل التجارية بين مراكش وفاس، وإلى نقطة مضيئة في التاريخ العلمي والثقافي لتادلة، والمغرب عموما”.