بنكراد يتهم “تمغربيت” بطمس الخصوصيات وامتصاص التناقضات الداخلية

بنكراد يتهم "تمغربيت" بطمس الخصوصيات وامتصاص التناقضات الداخلية
حجم الخط:

نقدٌ لاذع وتكذيب لصحّة دعوى “تمغربيت”، فكرةِ خصائص تميّز فكر وسلوك المنتمي إلى المغرب، حضر في دراسة للأكاديمي البارز وعالم السيميائيات المغربي سعيد بنكراد، اهتمّت بهذا المفهوم الذي خُطّت فيه دراسات وكتب، ووصل خطابات مسؤولين وشعارات أحزاب سياسية بالمملكة.

وشدّد بنكراد، في دراسة توصلت بها جريدة النهار، على أن “تَمَغْربيتْ” قد تُوهِم بِالتَّعدُّديَّة فِي القيم الروحيّةِ والثقافيّةِ، و”لكنّها فِي وَاقِع الأمْر لا تُبشِّر سِوى بِحقيقةٍ وَاحِدةٍ هِي مَا يَجمَع كُلَّ المغاربة، فلَا يَتِم الحوَار فِي الفضَاء العموميِّ ضِمْن مَا تَقتضِيه علاقَاتٌ تَتِم بَيْن أفْرادٍ تجمعُ بينهُم صداقاتٌ وصراعاتٌ ومصالحُ، بل اِسْتنادًا إِلى مَا يَسمَح بِه التَّصْنيفُ الـمُسبقُ.”

وأضاف: “قد تكونُ ‘تَمَغْربيتْ’ في هذا السياقِ أيضاً وسيلةً من أجلِ اِمتِصاصِ التَّناقضات الاجتماعيّةِ الدَّاخليَّةِ بإِعادة صِياغة الكثيرِ من الحقائقِ بِعباراتٍ لا تُلْغِي الواقعَ، ولكنَّها تُجنّبُ الذِّهْنَ التّفكيرَ في بشاعَته. إِنَّها قَادِرة على تَقدِيم غطَاء إيْديولوجيٍّ يُبْدِل تسمْياتٍ وأوْصَافاً بِأخْرى أقلّ قسوةً. ومن أجلِ ذلك كان من الضّروريِّ بلورةُ لغةٍ جديدةٍ تُعيد تسميةَ الكثيرَ من الأنشطَةِ والكيانات بما يَنزعُ عنها كلّ وصمٍ إضافيٍّ من طبيعةٍ اقتصاديّةٍ أو سياسيةٍ.”

وأوضح أن “تمغربيت” تُشيرُ إلى “سلوكٍ “فِطْرِيٍّ” شبيهٍ بِــ”الجينات” الأصليّة السَّابقةِ على وُجودِنا فِي الحيَاةِ، فهي ما يُمِدُّ الفرْدَ والجماعةَ بِالجاهز فِي السّلوكِ والأهْواء. إِنَّنا لا نَتَعلَّمُ من خلالِها كَيْف نَكُون مَغارِبةً، فنحْن نُولدُ فيها مَغارِبةً قَبْل وُجودِنا فِي المجْتمع. إنّها تعبيرٌ عن رغْبةٍ في التّخلّصِ من الدّفقِ الزّمنيِّ من أجلِ استكْناهِ ما يُشكّلُ سماتٍ موجودةً خارجَ تفاصيلِ العيشِ اليوميِّ.”

وتابع “سنكونُ في جميعِ هذه الحالاتِ أمامَ تَنميطٍ قائمٍ على تصنيفٍ مُسبقٍ يُدرِجُ الفعلَ الفرديَّ ضمن نماذجَ سلوكيّةٍ هي ما يُصدّقُ عليه، فهي شرطُ امتثاليّتِه، ذلك أنّ الفردَ فيها واجهةٌ لحشودٍ لا تُرى. وذاك هو جوْهرُ “التَّصْنيف”، إنّه إقرارٌ بِوجود خَصائِصَ مُلَازِمَةٍ للمصَنَّف تَشمَل سلوكَه وتفْكيرَه ومخيالَه ورُدودَ أفعالهِ وأحكامَه على الأشْياء. إِنَّه يَخلُقُ حَالَة انتِظار يُمْكِن مِن خِلالِها تَوقُّعُ مَا يُمكنُ أنْ يَصْدرَ عَنْه. ووفْق هذَا التَّحْديدِ يَقتَضِي فِعْلُ التَّصْنيفِ “تَحصِينَ” الذَّات بِسلْسِلةٍ مِن الـمُسبقاتِ والأحْكامِ الجاهزةِ. إنّه يَتضمّنُ إحالةً على حنينٍ مُستبطَنٍ لما ضاعَ أو ما يَتوهّمُ المُصنّفُ أنّه قد ضيّعهُ وهو يتلمّسُ طريقَهُ نحو حداثةٍ كسيحةٍ.”

وعَكْس المذْهبِ أو الطَّائفةِ “اللّذين يَستَنِدان إِلى نُصُوصٍ صريحةٍ تُحرِّم وتُحلِّ وتُبرِّر المستحبَّ والمكروهَ”، فَإِنّ تنميطا، مثل “تمغربيت”، “يَتَحوَّلُ إِلى مِظَلّة لا تُرى مِن أَجْل التَّغْطية على كُلِّ التَّفاوتاتِ التي تَتحكّمُ في تحديدِ مواقعِ الأفرادِ ضمنَ نسيجٍ اجْتماعيٍّ هو ما يُشكّلُ الوَضْعِيَّ في حَيَاة النَّاسِ. حينَها يُصبحُ التّنميطُ هو مَصدرَ العادلِ وغيْر العادلِ، ومعْيَارَ الخيْر والشَّرِّ وما يُقبَلُ وما يَجب أنْ يُرفَضَ. يتمُّ ذلك دائماً وَفْق مَا تُبيحُه “تَـمَغْربيتْ” أو تَسمحُ به.”

هذه الخصيصة المحدَثة “هُويَّةٍ” غريبةٍ، حسب بنكراد، “تَمتَحُ عَناصِر تَشكُّلِها مِن كُلِّ ما يجبُ أنْ يَقُود إِلى بَلورَةِ “شَخصِيّةٍ” تَتَحرَّك خَارِج مُحدّدَاتِ المواطنةِ والحقّ والواجبِ وخارج مركزيَّةِ الفردِ في الدَّولة المدنيَّة الحديثةِ أيضاً. بَعضُ هذه العناصرِ دِينيٌّ، وبَعضُها عِرْقِيٌّ صريحٌ، وبَعضُها جِهوِيٌّ، وما فضَلَ منها يُصنّفُ ضِمنَ ما أطلقوا عليه: “التّعبيراتُ الشعبيّة”. فكانت “تَمَغْربيتْ” هي الشّكلَ الوجوديَّ الذي يجمعُ بيْنهَا. إِنَّها بذلك تُؤسِّسُ لِكيانٍ جديدٍ لا يَكتَرِثُ فِي الغالبِ بالشَّرْطِ الحياتيِّ كمَا يُعَاش حقيقةً ضِمْن بِنياتٍ اِجْتماعيَّةٍ قَائِمةٍ على تبايناتٍ في المالِ والجاهِ والحُظوةِ والسّلطةِ والنّافعِ من الوطنِ وغيرِ النّافعِ.”

وتساءل بنكراد: “خرجَ الآلافُ من المواطنين فِي مَدِينَة الرِّبَاط دِفاعًا عن “الخُطة الوطنيَّة لِإدْمَاج المرْأة” التِي جَاءَت بِهَا حُكُومَة التَّناوب الأُولى، وَخرَج الآلَاف مِثْلُهم فِي الدَّار البيْضاء يُنادون بِإسْقاطِها. فكيْف يُمكنُ توزيعُ “تَمَغْربيتْ” على هؤلاء وأولئِك؟”، قبل أن يجيب “لا أحدَ فِي حَقِيقَة الأمْر يُمكنُ أنْ يُحدّدَ بدقّةٍ المعنى الحقيقيّ لــ”تَـمَغْربيتْ”، وكيْف يُجَسّدُها الأفْراد فِي سُلوكِهم. فَعدَا حالاتِ التَّجْييش والتّحريضِ الموْسميَّة أو العابرَة، كُلُّ شَيْء يُمْكِن أنْ يَعُود إِليْهَا، بِما في ذلك حالاتُ الكسَلِ والتَّواكلِ والخمولِ والهمزةِ والمحسوبيّةِ و”الكالةِ” وعدَم احتِرام الوقْتِ والتَّلصُّص على الغيْر.”

وبالتالي “قد تُصْبِح “تَـمَغْربيتْ” بديلاً عمّا يحكمُ سلوكَنا في الفضاءِ العموميِّ، فنحْن لا نَحتَمِي فيها بِقانون وَضعِيٍّ هُو مَا يَضبُط العلاقات بَيْن النَّاس، بل نَنتَمِي إِلى تَصنِيف سُلوكيٍّ وأخْلاقيٍّ مُسبَقٍ هُو الذِي يُحدِّد لنَا الكثِير مِن رُدُود أفْعالِنَا. يتعلّقُ الأمرُ بتقاطبٍ بين ما يُنظِّمُ عالماً وفق مصالحَ تخصُّ الأفرادَ والجماعاتِ، وبين آخرَ مُستمدٍّ من ميثاقٍ تَبنيه قناعاتٌ لا تخصّ سوى المؤمنينَ بها. وتلك كانَت مُنْطلقات الكثِير مِن التَّنْظيمات المتطرِّفة التِي بدَّلَت الوطن بِالطَّائفة أو العرْق أو المذْهب”.

ومن أوجه خطورة مثل هذه الخصيصات إمكان الاستناد إلى مسّلماتها في تحويل التَّصْنيف إِلى “مَسكُوكٍ عامٍّ قائمٍ على كلِّ ما تبنّاه النّاسُ أو آمنوا به خارجَ محدّداتِ المواطنةِ.”

ويشرح الباحث التطبيقات السيئة لـ”تمغربيت” قائلا: “يُمكنُ أنْ تتحوّلَ إلى مَدخَلٍ نَحْو الشُّوفينيَّة والعنْصريَّة والإكزينوفوبيا، بل قد تكونُ وَسِيلَةً لِخَلق الكثِير مِن الأوْهام حَول ذاتٍ لا تُشْبِه الذَّوَات، وَبذَلِك قد تَكُون مُبَرّراً لِلاضْطهاد والقَمْع وَكُلِّ مَا تحْتاجُه السُّلْطة مِن أَجْل تَبرِير وُجودِها، وهِي أيْضًا وسيلةٌ لطَمْس التَّفاوتات فِي الثَّرْوة والـمعْرفةِ والـمراكز الاجْتماعيَّة. هُنَاك الكثِيرُ مِمَّن يُصنَّفون ضِمْن “تَـمَغْربيتْ” لا شَيْء يجْمعهم بِالـمغْرب وفقرائِه وبسطائِه ولا يمدّون جذورهم في تُربتِه الثّقافيّة.”

بنكراد سجل أيضا أنه ضمن “تَمَغْربيتْ” أيضا “تُصنّفُ الأصواتُ الدّاعيّةُ اليومَ إلى “تَصحيحِ” التّاريخِ، واستبدالِ “الفتح الإسلاميّ” بـ “الغزو”. فهذا التّصحيحُ وحده سيُخلِّص الذاكرةَ المحليّةَ من كل ما علِق بها، لغةً وديناً وقيماً وتاريخاً وشواهدَ وأمثالاً، لكي تستعيدَ الأمّةُ “عِرقَها الصّافي” كما كان، خالياً من كلّ الشّوائبِ قبلَ أنْ يُلطّخَه “الغزاةُ” أو “الفاتحون””.

وأردف قائلا: “وإلى “تمغربيت” أيضا تستنِد السُّلْطة في وجودها وفي شكلِ انتقالِها من “الضّبطِ” إلى “المراقبَةِ”. فهي تَتَبنَّى الحداثةَ ودوْلَةَ القانون فِي وسائِل إِعْلامِها دُون أن تَمنَع أَذرُعَها الدِّعائيَّة فِي الدِّين وبرامجِ التلفزيون والوصلاتِ الإشهاريّةِ وَفِي تَقالِيد الحُكم مِن ضَبْط إِيقَاع قِيم الحداثة وأشْكَال تَنزِيل القانونِ وَفْق مَا تُبيحه هَذِه الأذْرع وتسْمح بِه. ووفق ذلك يُستعاضُ اليوم عن الشَّعْب، وَهُو مَقُولَة سِياسِيَّة، بِمقولة “تَمَغْربيتْ”، وهِي مَقُولَة عائمةٌ وفضْفاضةٌ مِن طَبِيعَة تصْنيفيَّة تبْسيطيَّة. يتعلّق الأمرُ وفقها بالتّبشيرِ بديموقراطيةٍ جديدةٍ تُبنى خارجَ محدّداتٍ تتحقّق في التّمثيليّة والمجتمعِ المدنيِّ، أي ضمن ما يقتضيه التّداولُ على السّلطةِ.”

بينما الحالُ أنّ “الديموقراطيّةَ هي فنُّ تَدبيرٍ التعدّد والتنوّع، إنّها لا تتأسّسُ على “إجماع الأمّة”، ولكنّها لا تَقومُ على التشظّي أيضاً، إنّها صيغةٌ حضاريّةٌ تُمكّنُ الفاعِلين السيّاسيين من إعدادِ فضاءٍ ثقافيٍّ قادرٍ على استيعابِ التنوّعِ في المعيشِ وفي الطّقوسِ وفي القناعاتِ العقَديّةِ والفكريّةِ في الوقتِ ذاته.”

ويتخوّف بنكراد من الاستناد السياسي على مقولة “تمغربيت” للاستمرار في “تحييد” الواقع: “ستُصبِحُ “الهشاشةُ” حينها بديلا عن الفقرِ، فالأولى تُشيرُ إلى قدَرٍ لا رادَّ له، أمّا الثّاني فحاصِلُ توزيعٍ غير عادلٍ للثّرواتِ يجبُ إصلاحُه. وسيُصبح “الـمشْروع”، وهو وعودٌ عامة، بديلاً عن “البرْنامج” الذي هو التزامٌ سياسيٌّ، وستكون “الحُقوقُ نفْسُهَا” هي البديلَ عن “المساواة أَمَام القانون”، وتحلُّ “حِمايةُ المسْتهْلكِ” محلَّ “زَجْر الغشَّاشين”، ويُعفينا “تسهيل العيشِ” من “تَغيِير شُروطِهِ””.

ويستشهد كاتب “وتحملني حيرتي وظنوني” بأن إحدى الوَظائِف الأساسيَّة للسّلطةِ منحها “الأشْياءَ التِي تكْرهُها الحُشودُ أَسمَاءً مُحَايدَةً أو لا تُثارُ حوْلهَا الشُّبهاتُ، فالكلماتُ تَملِكُ من القوّةِ ما يجعلُ النَّاسَ يَقْبلون بمَا كَانُوا يرْفضونه قديمًا”.

ويُتابع شرحهُ للمآلات الخطيرة لمثل هذه الدعوى قائلا: “تُصبحُ “الهويّةُ”، كما تتمُّ صياغتُها في “تَـمَغْربيتْ”، مستعصيّةً على الإدراكِ إِذَا لم تكُن تميُّزًا عن الآخر، ما يُمكنُ أنْ يُشيرَ إلى تَبرِئةِ ذِمَّةٍ من المواطنةِ وتنصُّلٍ مِمَّا جاء بِه العصْر في الوقتِ ذاته. إنّ الأمرَ في “تَـمَغْربيتْ” شبيهٌ بالأساليبِ الدعائيّةِ القديمةِ، فلَا يُمْكِن لِأيِّ نشاطٍ دِعائيٍّ إغفالُ دَوْر الحكاياتِ فِي الإقْناع الانْفعاليِّ (…) لذلك لا تُشكِّلُ “تَـمَغْربيتْ” خطراً على الدّاعينَ إليها، إنّها تُصبِحُ كذلك عندما يَعْتقنهَا البسطاءُ وتُصبحُ عائقاً عندهم عن التَّمْييز بَيْن الحقيقيِّ والـمُـستهامِ، حقيقتُهم في التّاريخِ وفي المعيش اليوميِّ، على حدٍّ سواء. فلا وُجُود لِلعنْصريَّةِ بَيْن الأغْنياء، فقد يُنتِجُ هؤلاء عَقائِد لِلْعنْصريَّة، ولكِنّ الفقراء هم من يجسّدُها في الممارسَةِ، وذاك أَخطَرُ مِن العقيدةِ”.

ونبه بنكراد إلى الرّبط عند بعضِ دُعاةِ “تَـمَغْربيتْ” بينها وبين ما أُطلِقَ عليه “يقينيّات محليّة”، مستغربا حديث مثقفين عن “اليقين”؛ “فما كان يشكّلُ في الغالبِ أَحكَاماً اِجْتماعيَّة أو مَعرِفةً مَعيشِيّةً تَخُص تَنظِيم شُؤُونٍ حَياتِيَّة عابرةٍ، كمَا هو الحال عِنْد القبائلِ والعشائرِ والتّجمعاتِ السكانيّة المعزولةِ، يَتَحوَّل فجأةً إِلى حَقِيقَةٍ مُطلَقَةٍ تُبنَى عليْهَا هُويَّةٌ جَدِيدَةٌ هِي التِي يَستَنِد إِليْهَا المغاربةُ فِي تَنظِيم حَياتِهم، كُلُّ المغاربة، الأغْنياءُ مِنْهم والفقراءُ والدّهماء وسفلةُ القومِ والذين لا تَصنيفَ لهم.”

ولا يستغرب، في إطار المنطق ذاته، اعتبار كون “اللّغة ذاتَها لا يُمكنُ أنْ تكونَ قادرةً على التّعبيرِ عن “تَمَغْربيتْ” إلا إذا كانت عاميّةً تَكتفي في الغالبِ بتدْبير شأنٍ يوميٍّ أو بنقلِ الحسيِّ واستنساخهِ”، بينما الحقيقة “أننا نَستعْمِل اللغَةَ أَدَاة لِلْإفْلات مِن ربقةِ الطّبيعةِ ومحدوديّتِها، وتلك وظيفتُها الأساس. فَأن تُسمِّي مَعْنَاه أن تَنفَصِل عَمَّا تُسمِّي. بل إنّ التَّسْمية ذاتهَا لَيْست سِوى لَحظَةٍ فِي التَّعْيين، فجوْهر اللّغَةِ هُو الخُروج بِالذَّات مِن تمثُّلَات العيْشِ إِلى مَا يُمْكِن أنْ يُشكِّلَ عالماً مُمْكِنا فِي الذّاكرةِ”.

وجدّد الأكاديمي انتقاده للأساليب الدعائية التي استند عليها هذا المفهوم قائلا: “كُلَّ الأساليب الدِّعائيَّة، القديمةِ منها أو تلك التي اتّخذتْ في عصرنا شكلَ “تواصلٍ”، تميّزت بقدرتها على نَسْج محْكيَّات، إِنَّها كانت وما زالت جُزْءاً مِمَّا يُطْلَق عليْه “العصْر السرْدِي”، فالنَّاس لا يُكَوِّنون آراءَهم بِشَكل حُرٍّ وإراديٍّ، إِنَّهم مُوجَّهون مِن دَاخلِهم نَحْو قَوْل مَا يُرَادُ لهم قولُه”. ولِذَلك “لا يُشيرُ الَّذين يتحدَّثون عن “تَـمَغْربيتْ” إِلى أسبابِ فقْرِنا وبُؤسِنا والفسادِ الذِي يَنخُر إِداراتنَا وجامعاتِنا والكثير مِن مُؤسَّساتِنا. ولا يتحدّثون أيضاً عن “مَغارِبة الحداثةِ” و”مَغارِبة التَّقْليد”، ولا يُميّزون بيْن “مغاربة الفقر” و”مغاربة الثّروةِ” وبين “مغاربة النزاهةِ” و”مغاربة الهمْزة””.

وفي مقابل التبشير بـ”الشوفينية” و”الهوية المغلقة” وتحييد التنوع، مغلّفا بـ”تمغربيت”، يذكّر بنكراد بمعنى المواطنة والإنسانية، وينفي المفاهيم الخالصة للهوية، لافتا الانتباه إلى أن “الانْتماءَ إِلى الإنْسانيَّة لا يَتِم مِن خِلَال تَوهُّمِ وَحدَة ٍكَونِيّةٍ مَزعُومةٍ، بل يَتَحقَّق مِن خِلَال القُدرة على التَّصَرُّف فِي المُتاح الإنْسانيِّ وَفْق حاجاتٍ يفْترضهَا الانْتماء إلى إرثٍ حضاريٍّ، ووفق ما يقتضيه معيشٌ يَومِيٌّ يُفْرِز حَالَة وَعْي، هي ما يُوجِّه السُّلوكَ وَيُحدِّد نمطَ العلاقاتِ بَيْن النَّاس في هذا المعيشِ ذاتهِ.”

ويزيد موضحا أن هذا أيضاً “مَا يُبلْوِر هُويَّةً تَجمَع ضمنَ ما يُشيرُ إلى مصيرٍ مشتركٍ يجمعُ بينهم في قديمِ التّاريخِ ومستقبَلِهِ.ِ وذاك ما يشكِّلُ وحْدةً قادرةً على اِسْتيعاب خُصوصيَّاتهم في الانتماءِ إلى وطنٍ هو الجامعُ بينهم، فالكثِير مِمَّا كان يُعَدُّ جُزْءًا مِن الهوِيّةِ تَحوَّل اليوْم إِلى عَناصِر فُلكلوريَّة لا تَستثِيرُ أحداً ولا يتذكَّرهَا النَّاس إِلّا فِي المواسم أو في بعض الطُّقوس الدِّينيَّة.”

ويستشهد بنكراد بعالم الإناسة المغربي حسن رشيق، الذي كتب أن “أنّ الانْتماء إِلى مَجمُوعة مَا لا يَقتَضِي انسجامًا ثَقافِيّاً، إِنَّه في وَاقِع الأمْر حَاصِلُ إِرادةٍ سِياسِيَّة”، وقد يحدثُ أنْ “تتشكّل هُويَّاتٌ جَماعِيّةٌ حَتَّى فِي غِيَاب وَجودِ ثقافَةِ وَلغَةٍ مُشْتركتيْنِ”؛ ليقول: هذا ممكن التحقق “حتى في غياب “تَـمَغْربيتْ”. وتلك هي طبيعةُ العيشِ في المجتمع، إنّنا نولدُ وننمو داخل زمنيّةٍ تُغيّر من شكل وجودِ كلِّ شيءٍ (…) إنّ الثَّابتَ الحقيقيَّ فينا هُو القابلُ لِلتَّغَيُّر، فنحْن لا يُمْكِن أنْ نُوجَد فِي الزَّمن خَارِج احتمالاتِ التّحول”.

كما يستشهد بعالم الاجتماع والإناسة المغربي عبد الكبير الخطيبي وكتابته أن “الهوِيةَ ليسَت كِيانًا مُغْلقًا، إِنَّها أثرٌ مِن آثارِ الزَّمنِ، وَهِي بِذَلك مُدرَجَةٌ ضِمْن مآلٍ، فَـ”الأنَا” تعيشُ حياتَها كلَّها ضِمْن هذا المآل، وستكونُ عوْدتُها إِلى الماضي اسْتثارةً لِحنينٍ وعبادةً لِلْموْتى”، ليخلص إلى أن مضمون الهوية “لا يكمُنُ فِي الاسْتغْراق الكُلّيِّ فِي مُحدّدَات أَولِيّة تُصنَّفُ الكائناتُ داخلَها حسب ما تُمليه جيناتُ الفصيلةِ، بل هي القدرةُ على التجدّدُ في الإرث وفي المتاح الحضاريِّ”.

ويستنتج بنكراد أن “تَـمَغْربيتْ”، “على عَكْس ظَاهِرها، لا تُوحِّد بين النّاس، إِنَّها تَطمِسُ الخصوصيَّات وتُلْغيهَا أو تُخفِّفُ مِن حِدَّتهَا. يَتَعلَّق الأمْر بِاسْتثارة مَا كان يُسَميه غوستاف لوبون دائماً “الرُّوح الجماعيَّة”، تِلْك الأنَا الكُليّةُ التِي تُمكَّنُ مِن مُخَاطبَة الفرْدِ مِن خِلَال انْتمائِه إلى “مجمُوعةٍ” لا تُحَدّدُها مَصالِحٌ اِقْتصاديَّة، كمَا هُو الشَّأْنُ مع الطَّبَقة والِجسمِ الـمِهَنيِّ أو المجْموعة الحرفيَّة، إنّها تَحتمي بمجموعِ الأحكامِ والمواقفِ التي تُعَدُّ ضمانةً على “انسجامِ” الجماعةِ و”تماسُكِها”. إِنَّها تنظرُ إلى الفردِ باعتبارهِ رقْمًا ضِمْن حُشُودٍ لا تُفكِّر استناداً إلى وقائع محدّدةٍ. إنّها بذلك لا تثقُ سوى بما يُمكنُ أنْ يَأتي من “انفعالاتٍ جماعيّةٍ” عارضةٍ أو من “أهواءَ” تتغذّى من الأحكامِ الاجتماعيّةِ أو من أوهامِ العرقِ أو الطائفةِ أو مما يمكن أنْ يُفرَزه الإيمانُ العقَديُّ.”