إشكالية هيكلة القطاع غير المنظم .. توسع عددي وتقلص اقتصادي بالمغرب

أفضى “البحث الوطني حول القطاع غير المنظم” بالمغرب، المنجَز ميدانياً لمدة سنة كاملة (أبريل 2023 إلى مارس 2024)، إلى تحيين معلومات “ثمينة” حول “خصائص الوحدات الإنتاجية غير المنظمة وكيفية دمجها في الاقتصاد الوطني وتقييم إسهامها في مجالات خلق الثروة والشغل”.

البحث، الذي أعدّتْهُ “مندوبية التخطيط”، جاء شاملاً لعيّنة مكونة من 12391 وحدة إنتاج غير منظمة، لافتا الانتباه، حسب معدّيه-،إلى أنه “يشمل جميع وحدات الإنتاج غير الفلاحية التي لا تتوفّر على محاسبة وفقاً لنظام المحاسبة المعمول به في المغرب”، وبالتالي “فهي جزء من الاقتصاد غير المرصود في المغرب”.

إعلان إشكالية هيكلة القطاع غير المنظم .. توسع عددي وتقلص اقتصادي بالمغرب

وفي إشارة دالة أكدت المؤسسة الإحصائية الوطنية أنه “على غرار بحث سنة 2014 لا يشمل القطاع غير المنظم الأنشطةَ المحظورة أو غير القانونية ولا الإنتاج الذي يتم إخفاؤه عمدًا لتفادي الالتزامات الضريبية أو الإدارية بوحدات الإنتاج التي تشتغل في القطاع المنظم”.

دلالات حاضرة

حسب محمد عادل إيشو، محلل مختص في الاقتصاد القياسي أستاذ جامعي بالمدرسة العليا للتكنولوجيا بخنيفرة، فإن مساهمة القطاع غير المنظم في الناتج الداخلي الخام “غير الفلاحي والإداري” شهدت “تراجعاً واضحًا، إذ انخفضت من 15% سنة 2014 إلى 10,9% سنة 2023، رغم ارتفاع رقم معاملاته من 409,4 إلى 526,9 مليار درهم”.

وقال إيشو لجريدة جريدة النهار إن “التراجع يُمكن قراءته من زاويتيْن: من جهة هو إشارة محتملة إلى نجاح بعض السياسات العمومية التي أدت إلى توسع الاقتصاد المنظم بمعدلات أسرع، ومن جهة أخرى قد يكون مجرد انعكاس لنموّ غير متوازن، إذ لم يصاحبه تحوّل حقيقي في هيكلة الوحدات غير المهيكلة أو إدماجها الفعلي ضمن المنظومة القانونية والجبائية”، وفق قراءته.

ومفصِّلا حسب القطاعات يرى المحلل ذاته أن “التجارة مازالتِ النشاط الرئيسي داخل القطاع غير المنظم بنسبة 47% من الوحدات، غيِرَ أن مساهمتها النسبية في الإنتاج تراجعت لصالح الخدمات، التي عرفت ارتفاعًا ملحوظًا في الوزن الاقتصادي؛ وهو تطور يعبّر عن تحولات في الطلب الحضري وأنماط الاستهلاك، إذ تتزايد الحاجة إلى خدمات النقل والمطاعم والصيانة”، وزاد: “لكن طبيعة هذه الأنشطة تبقى تقليدية في الغالب، وتفتقر إلى القيمة المضافة العالية، ما يجعل استدامة هذا النمو موضع تساؤل ما لم يُرافقه دعم موجه نحو التأهيل والاحترافية”.

وحسب المختص في الاقتصاد القياسي فـ”المستوى التعليمي لرؤساء الوحدات غير المنظمة تحسن بوتيرة ملحوظة”، مستدلا بنسبة منخفضة للذين لا يتوفرون على أي مستوى تعليمي من 34,3% إلى 18,6%، فيما ارتفعت نسبة الحاصلين على التعليم الثانوي إلى 40,5%؛ قبل أن يُتمّ مستدركاً: “إلّا أن هذا التحسن لم ينعكس على تنويع الفئات المستفيدة، إذ تراجعت المشاركة النسائية في قيادة هذه الوحدات من 8,8% إلى 7,6%. كما ارتفع متوسط عمر الفاعلين إلى 45 سنة، ما يُشير إلى محدودية التجديد الديموغرافي في هذا النسيج الإنتاجي الهش”.

ويؤكد إيشو لجريدة النهار أن “التمويل أحد أبرز مكامن ضعف القطاع غير المنظم، باعتمادِ الغالبية الساحقة من الوحدات على التمويل الذاتي، سواء عند التأسيس أو خلال التسيير اليومي؛ فقط 2,1% من رؤساء الوحدات يمتلكون حسابًا بنكيًا مخصصًا للنشاط، و97,9% لم يسبق لهم اللجوء إلى أي شكل من أشكال القروض البنكية”، وأردف: “هذا الوضع يعكس إقصاءً ماليًا هيكليًا ويضع حدودًا صارمة أمام فرص التوسع أو التحديث، ويُبيّن الحاجة إلى سياسات مالية أكثر شمولًا وتكيّفًا مع خصوصية هذه الفئة”.

وبعدما رصد “ضُعف نسب التسجيل الإداري التي بقيَت دون 15%”، تحدث المحلل ذاته عن أن “ثمّة مؤشرات تدعو إلى التفاؤل الحذر؛ من أبرزها تزايد التفاعل التجاري بين القطاع غير المنظم والقطاع المنظم، وتحديدًا في التوريد (إذ ارتفعت النسبة من 18,2% إلى 33,7%)؛ كذلك بدأ يظهر بعض الوعيُ بأهمية التنظيم في صفوف الفاعلين، خصوصًا لدى الوحدات التي تمتلك محلات ثابتة”، متابعا: “هذه الإشارات، وإن كانت محدودة، قد تشكل نقطة انطلاق نحو إستراتيجية إدماج تدريجي أكثر فعالية”.

وأجمل المتحدث خاتماً: “الوضع الراهن للقطاع غير المنظم يُبرز مفارقة واضحة؛ رغم توسّعه العددي والنشاطي فإن مساهمته النسبية في الاقتصاد تتقلص، وهو ما يطرح إشكالية التحول غير المتوازن. المطلوب اليوم هو الانتقال من منطق ‘التقليص الرقمي’ إلى منطق ‘الإدماج البنيوي’، عبر آليات واضحة تشمل: تحفيزات جبائية، تمويلات مَرنة، تبسيط المساطر، تعزيز التكوين، ودعم النساء والشباب. وفي غياب هذه الخطوات سيبقى القطاع غير المنظم خارج دينامية الاقتصاد الوطني، ويواصل الاشتغال في الهامش، مهما كانت أرقامُه في الظاهر”.

السياسات العمومية

قال المحلل الاقتصادي خالد حمص، أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة محمد الخامس بالرباط، إن “البحث الوطني الجديد يجدد النقاش حول حجم الاقتصاد غير المهيكل وتأثيره على الاقتصاد المغربي؛ لكنه ليس ظاهرةً مغربية فقط، خاصة في عدد من الدول النامية والمتقدمة التي مازالت تعاني تبعاتِ أنشطة اقتصادية غير مهيكلة أو يختار المقاولون فيها هامش الظّل”.

وزاد حمص شارحا لجريدة النهار أن “لدى بعض المقاولين بالمغرب تفضيلًا لممارسة النشاطات الاقتصادية غير المهيكلة، لتجنب الضرائب وتقليل تكاليف الإنتاج”، مشددا على أن “الاقتصاد غير المهيكل ظاهرةٌ عالمية تختلف في حجمها بين الدول بناءً على تطورها الاقتصادي وقوة نظام المراقبة والضرائب”.

وتابع المتحدث ذاته: “دولٌ مثل المغرب تُصنف كدول متوسطة في حجم القطاع غير المهيكل مقارنة بدول كالهند وبنغلاديش”، قبل أن ينوه بـ”جهود الدولة لتحويل القطاع غير المهيكل إلى مهيكَل عبر سياسات طويلة المدى تشمل الدعم الضريبي وتسهيلات للمقاولين”.

ومستندًا إلى نتائج بحث “التخطيط” عن وحدات الإنتاج غير المنظَّمة رصدَ أستاذ الاقتصاد “تأثيرا اجتماعيا واقتصاديا إيجابيا وسلبياً للقطاع غير المهيكل، بما في ذلك التهرب الضريبي”، مضيفا: “الدولة تسعى إلى تحقيق توازن في السياسات العمومية لتجنّب التوترات الاجتماعية المرتبطة بالضغط على استدماج القطاع غير المهيكل”.

واستحضر حمص في السياق “برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تهدف إلى دعم المقاولين وتحفيزهم على الانتقال من القطاع غير المهيكل إلى المهيكل، رغم طابعها التضامني-الاجتماعي المحدود”، وأكد “جهوداً واضحةً من وزارة المالية وإدارة الضرائب لتعزيز المحاسبة والضغط على الشركات المغربية، لاسيما الصغرى ومتناهية الصغر، للانتقال للاقتصاد المهيكل”، وختم بأن “الهدف الأساسي هو الدمج الاقتصادي لتحقيق توازن اقتصادي ومالي واجتماعي في المستقبل”.

زر الذهاب إلى الأعلى