صناع الخبز يتصارعون مع تقلبات الأسواق وارتفاع التكاليف في المغرب

وسط استقرار نسبي في أسعار بعض المواد الغذائية، يلوح في الأفق تهديد جديد يتعلق بمادة الخبز، التي تُعد من الأساسيات في المائدة المغربية. تقارير ميدانية تؤكد أن هذه المادة الحيوية تظل معرّضة لارتفاع سعرها في أي لحظة، بفعل تقلبات السوق وتزايد تكاليف النقل والإنتاج. فالمخابز التقليدية والصغيرة، التي تشكل النسبة الأكبر من المزودين، باتت تعاني من ضغط متزايد بسبب ارتفاع أثمنة الغاز والدقيق، ما يجعلها مضطرة للتفكير في رفع الأسعار، ولو بشكل غير معلن، من خلال تقليص حجم الرغيف أو تقليل جودته للحفاظ على هامش ربحها.

أمام هذا الواقع، تتصاعد المخاوف من أن يشعل أي ارتفاع في أسعار الخبز فتيل الغضب الشعبي، بالنظر إلى مكانة هذه المادة في المعيش اليومي للمغاربة، خاصة في صفوف الفئات الهشة. ويؤكد خبراء اقتصاديون أن الخبز ليس مجرد سلعة استهلاكية، بل مؤشر حساس على الاستقرار الاجتماعي، ما يستدعي تدخلا استباقيا من الحكومة لضمان استقرار تموين السوق، وتشديد الرقابة على سلسلة الإنتاج والتوزيع، تفادياً لأي ارتباك قد يؤثر على التوازنات المجتمعية.

إعلان صناع الخبز يتصارعون مع تقلبات الأسواق وارتفاع التكاليف في المغرب

تعكس هذه التحديات ما سجلته المندوبية السامية للتخطيط في تقاريرها الأخيرة، التي أشارت إلى تراجع طفيف في معدل التضخم، دون أن يشمل ذلك المواد الأساسية المدعمة مثل القمح والدقيق. ففي الوقت الذي شهدت فيه أسعار الخضر واللحوم بعض الانخفاض، ظل سعر الخبز على حاله، ما يثير تساؤلات حقيقية حول قدرة الدولة على الاستمرار في دعم هذه المادة الحيوية، خاصة في ظل الضغوط المالية والتقلبات الاقتصادية العالمية التي ترخي بظلالها على السوق الوطنية.

أثر الغلاء

قالت الهاشمية، وهي بائعة خبز بأحد الأسواق الشعبية في الرباط، إن أسعار الدقيق شهدت خلال الأسابيع الماضية ارتفاعا طفيفا، مما انعكس بشكل مباشر على تكلفة إعداد الخبز. وأضافت أن أغلب المهنيين الصغار لم يرفعوا السعر حفاظا على الزبائن، لكنهم لجؤوا إلى تقليص حجم الرغيف أو الاعتماد على طحين أقل جودة، مشيرة إلى أن ارتفاع التكاليف يقابله ضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين، ما يضع الطرفين أمام معادلة صعبة.

وأشارت الهاشمية، ضمن حديثها لجريدة النهار، إلى أن بعض الزبائن باتوا يحتجون على صغر حجم الرغيف أو تغير مذاقه، دون أن يدركوا أن البائعين يواجهون بدورهم صعوبات في تغطية التكاليف. وأضافت أن نوعية الطحين لم تعد كما كانت، كما أن ثمنه في ارتفاع مستمر، في وقت يصعب فيه على المهنيين الصغار تحمل الخسارة. ولفتت إلى أن استمرار هذا الوضع سيجعل الخبز الجيد امتيازًا لمن يملك القدرة على الدفع، بينما سيضطر البسطاء إلى القبول بجودة أقل أو تقليص استهلاكهم اليومي، قائلة: “الخبز أصبح رفاهية”.

وأكدت الهاشمية أن عددا من أصحاب المخابز التقليدية الصغرى باتوا يلوّحون بإغلاق محلاتهم إذا استمر الوضع على ما هو عليه، مشددة على أن الخبز لم يعد يحقق هامش ربح يذكر، بل أصبح عبئاً ثقيلاً في ظل تصاعد تكاليف الإنتاج وغياب أي دعم مباشر. وأوضحت أن من يخبز مئة قطعة في اليوم لا يجني سوى نصف ما يكفي لتغطية الكراء والكهرباء، قائلة: “ما بْقى ما يْدارْ”. ودعت الحكومة إلى التدخل العاجل لحماية هذا القطاع الحيوي والحفاظ على توازن السوق.

أزمة الزراعة

قال الحسين، فلاح بمنطقة الغرب، إن زراعة القمح هذا الموسم كانت “مخيبة للآمال”، موضحا أن قلة الأمطار وارتفاع كلفة الإنتاج، خصوصا البذور والمبيدات، دفعت فلاحين كثرا إلى تقليص المساحات المزروعة أو التخلي عنها كليًّا. وأضاف أن الفلاح الصغير أصبح الحلقة الأضعف في السلسلة؛ إذ لا يستفيد لا من الدعم المباشر ولا من التأمين الفلاحي، مشيرا إلى أن الزراعة باتت محفوفة بالمخاطر، حتى في حال كانت المحاصيل ضعيفة، بسبب غياب المشترين بأسعار منصفة.

وأشار الحسين، في تصريح لجريدة جريدة النهار الإلكترونية، إلى أن ضعف الإنتاج الوطني سيؤدي حتمًا إلى زيادة الاعتماد على الاستيراد، ما سيجعل أسعار القمح والطحين مرهونة بتقلبات السوق الدولية. وأوضح أن الوضع الحالي يفرض على الدولة مراجعة سياستها الفلاحية، خاصة في ما يتعلق بدعم الفلاحين الصغار وتوفير مستلزمات الإنتاج بأسعار معقولة. كما دعا إلى الاستثمار في تقنيات السقي والتخزين، لتأمين الأمن الغذائي وتقليص الفجوة بين العرض والطلب في السنوات المقبلة.

وأكد الفلاح ذاته أن الاستقرار في أسعار الخبز يستوجب مقاربة شمولية، تأخذ بعين الاعتبار وضعية الفلاح والظروف المناخية الصعبة التي تمر بها البلاد، بالإضافة إلى كلفة الإنتاج المرتفعة. وشدد على أن استمرار تجاهل هذه المعطيات سيؤدي لا محالة إلى ارتفاع تدريجي في أسعار المواد الأساسية، وفي مقدمتها الخبز، داعيا إلى تمكين الفلاح من آليات الدعم والتمويل والمواكبة التقنية لضمان وفرة الإنتاج وجودته، بما يساهم في استقرار السوق وتفادي أي انعكاسات اجتماعية محتملة.

عدوى الأسعار

قال عبد القادر فاسي الفهري، أستاذ الهندسة الاقتصادية بالجامعة الأورو-متوسطية بفاس، إنّ تحليل واقع أسعار الخبز في المغرب يستلزم أولًا وضعه ضمن ما يُعرف بنظرية التوازن العام الجزئي، أي ربط الكلفة الإنتاجية بالمعطيات البنيوية لسوق الحبوب والطحين ومستلزمات التصنيع، التي تُعدّ في جزء كبير منها مرتبطة بالأسواق الخارجية. وأضاف أن الزيادات الطارئة في أسعار الخبز، خصوصا في الأحياء الشعبية، تعكس في الواقع انتقالًا جزئيًا للضغط التضخمي من قطاع إلى آخر، وهو ما يُسمّى في الاقتصاد “تأثير العدوى التضخمية”، حيث لا تُعد الزيادة نتيجة مباشرة لارتفاع الكلفة، بقدر ما هي محاولة لإعادة توزيع الأعباء بين الفاعلين، لا سيما في ظل تراجع هوامش ربح الفُرن التقليدي مقارنة بسلاسل الإنتاج المُمَكننة.

وأوضح الفهري، ضمن تصريح لجريدة جريدة النهار الإلكترونية، أن استقرار أسعار القمح اللين في السوق الدولية خلال الشهور الأخيرة لا يعني بالضرورة ثبات كلفة إنتاج الخبز محليًا، بسبب عوامل مركّبة تتعلق بتكاليف النقل، وتقلبات أسعار الطاقة، والضغط على سلاسل التوريد، إضافة إلى بنية الدعم الداخلي. وبيّن أن دعم الدولة لأسعار الدقيق المدعم لا يشمل سوى جزء ضئيل من الإنتاج الموجَّه للاستهلاك، وأن الخبز المباع خارج نظام الدعم أصبح يخضع بشكل أكبر لمنطق السوق الحرة، مما يجعل سعره أكثر حساسية لأي تغير في البيئة الاقتصادية الدولية أو في بنية التكاليف المحلية.

وأكد الأستاذ الباحث أن الحل المستدام لأزمة الخبز لا يكمن فقط في ضبط الأسعار أو تعزيز الدعم، بل في إعادة هيكلة سلسلة القيمة الزراعية والغذائية برمتها، من خلال تحفيز الاستثمار في الأصناف عالية الإنتاج، وتطوير البنية التحتية للتخزين والنقل، وتقنين العلاقة بين الفلاحين والمطاحن والمخابز ضمن ما يُعرف بنُظم الحَوكمة القطاعية. كما شدّد على ضرورة خلق منظومة معلومات دقيقة وشفافة حول الكلفة الحقيقية لإنتاج الخبز، تُمكن من توجيه الدعم للفئات المستحقة وتفادي الهدر، داعيا إلى تجاوز المقاربة التقنية الضيقة نحو تصور استراتيجي يربط الغذاء بالعدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.

وختم فاسي الفهري تصريحه بالتنبيه إلى أنّ استمرار التعامل مع الخبز كمجرد مادة استهلاكية عادية يُفقد السياسات العمومية بُعدها الاستباقي في تدبير الأمن الغذائي، مشيرا إلى أن الخبز يمثل في الهندسة الاقتصادية ما يعرف بـ”المؤشر الحساس” (produit sentinelle)، الذي يكشف من خلال تقلباته اختلالات أوسع على مستوى منظومة الإنتاج، والعدالة المجالية، وإعادة توزيع الدخل. وشدد على أن أي سياسة ناجعة في هذا الصدد يجب أن تُبنى على معادلة دقيقة بين الإنصاف الاجتماعي، والفعالية الاقتصادية، واستدامة الموارد، ضمن رؤية شاملة تعتبر الغذاء رافعة للسيادة، لا مجرد سلعة خاضعة لقانون العرض والطلب.

زر الذهاب إلى الأعلى