في حفل شهد حضورا أكاديميا وثقافيا ومدنيا بارزا، وقعت المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، الثلاثاء بالرباط، اتفاقية استقبال مكتبة الأمين العام السابق للحكومة والقاضي والأكاديمي إدريس الضحاك، وأعلنت تخصيص جناح خاص لأزيد من 5000 كتاب، ومئات المجلات، وأرشيفه الأدبي الورقي والسمعي البصري.
وقال محمد الفران، مدير المكتبة الوطنية، إن هبة الضحاك “صدقة جارية، ستسُد ثغرة كبيرة لعموم الباحثين والدارسين، لاحتوائها مخطوطات وحجريات وكتبا ومجلات نادرة بالعربية والإسبانية والإنجليزية؛ ناهيك عن أرشيفه الأدبي الغزير والهام، الذي سيستفيد منه المهتمون بالدراسات المغربية في التأريخ لبعض محطاتها الفاصلة”.
وأضاف مدير المكتبة الوطنية أن هذا الموعد يحتفي باستقبال خزانة الضحاك وأرشيفه الأدبي، و”بشخصه الكريم بوصفه أيقونة، وعلَما بصم المجال القضائي والقانوني والحقوقي والأكاديمي والثقافي، في المغرب وكل الدول العربية والأوروبية والأمريكية”، وتابع: “لقد عمل هذا المثقف الموسوعي الذي يتقن لغات عديدة بتفان إخلاصا لبلده والحضارة التي نشأ في أحضانها، وهو منارة علمية شامخة، وعلم من أعلام الفكر والثقافة المغربية، تعددت مجالات الكتابة عنده وتوزعت (…) بتُؤدة وأناة تعرفها دراسته في معالجة القضايا وتفكيك المعضلات في الدراسات القانونية البحرية، و(…) القضاء والبيئة والحقوق، وتجاوزت عطاءاته الفكرية حدود الوطن، أستاذا مشاركا محاضرا ومناقشا، وموسّما ومكرّما في دول عديدة”.
محمد عبد النباوي، الرئيس الأول لمحكمة النقض الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وصف الضحاك بـ”الصرح الشامخ من العلوم”، فهو “قاض ومؤلف ومفكر وقانوني وسفير ووزير وحقوقي ودبلوماسي ورجل سياسة، وأستاذ كبير في علوم القانون يتخصص في أندرها وأقلها انتشارا”، وزاد متحدثا عن بصماته المتعددة “في قاعات المحاكم التي عرفته قاضيا للحكم، وقاضيا للنيابة العامة، ناصرا للحق والقانون، وكان الرئيس الأول لمحكمة النقض بمسماها القديم المجلس الأعلى (…) وترك لها تراثا فقهيا وثروة من الوثائق”.
وواصل عبد النباوي: “بصماته في نفوس أجيال من القضاة تعلموا منه أول حروف مهنة القضاء، وتلقيتُ عنه معلومات قانون السير وهو مدير معهد الدراسات القضائية آنذاك في نهاية السبعينيات (…) لا تؤثر فيه الأزمات والأحداث، ويمتص الغضب بأناة وصبر”؛ كما استحضر تسييره تجارب المجلس الاستشاري للحوار الاجتماعي، ولجنة الانتخابات، والخطوات الأولى للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، بعدما طلب العلم في جامعة بغداد، وبروكسيل الحرة ونيس الفرنسية، باللغات العربية والإسبانية والفرنسية، إضافة إلى معرفته بالإنجليزية والألمانية.
كما ذكّر المتحدث بأن المحتفى به كان سفيرا للمغرب بسوريا، “أعاد الدفء لعلاقة البلدين في ظروف صعبة آنذاك”، كما شغل منصب الأمين العام للحكومة في ولايتين، وهو عضو بأكاديمية المملكة المغربية.
حسن الداكي، رئيس النيابة العامة، اعترف بـ”جميل رجل عز نظيره، اجتمعت فيه خصال تفرقت في غيره، من فيض عطاء ودماثة أخلاق، فقد أسدى خدمات متعددة المشارب والدروب والمسالك (…)”، وزاد: “عرفته في المعهد العالي للدراسات القضائية وأنا طالب، بحرا من الأخلاق، تشربنا من معينه الصافي قيم المواطنة والخصال السامية، وظله مازال يرافقني والعديد من رفاق دربي إلى الآن”.
وذكر الداكي أن إدريس الضحاك “هرم من أهرامات المغرب، الذين بلغ صداهم عنان السماء بعطاء لا متناه، بصم لنفسه ولبلده مسارا نموذجيا، بعصامية وكفاءة عالية؛ فترقّى في مناصب المسؤولية القضائية بمختلف مستوياتها، وهو فقيه قانوني، ودبلوماسي، وفاعل في منظمات ذات إشعاع عالمي، ومساهم في نهضة المغرب التشريعية في الأحوال الشخصية والقانون البحري وقانون السير”.
ولقّب المتحدث الضحاك بـ”قاضي الفقهاء وفقيه القضاة”، قائلا إن سيرته “ينبغي أن تُدرَّس وذاكرته ينبغي أن تحفظ” عبر أجيال المغاربة.
المحجوب الهيبة، الأمين العام للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سابقا، قال إن الضحاك “أخ عزيز، كنت تلميذه ومازالت، ووهب اليوم كنزا للمكتبة الوطنية، وهُوَ نفسُه كنز كبير، ومعلمة تعرفت عليها في بداية الثمانينيات في بداية مشواري أستاذا مساعدا بالدار البيضاء، وهو آنذاك مدير للمعهد الوطني للدراسات القضائية، ووجدت فيه أحد الشخصيات المنفتحة على الجامعة بصورة صادقة وأكاديمية، ربما أكثر من بعض الأكاديميين الذين رافقتهم في مشواري”.
وواصل الهيبة: “تعرفت عليه وهو عضو مهم جدا، لعب دورا في أكبر مؤتمر في القرن الماضي، المؤتمر الثالث لقانون البحار، بمعية محمد مصطفى الغربي (…) وترك بصمات يشهد بها الجميع، في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار سنة 1982، التي امتد المؤتمر المؤدي لها منذ سنة 1973 (…) وكان فيه وفيا لمشاركة المغرب بقدراته وخبرته”.
ومع شكر المتحدث المكتبة الوطنية على “تخصيص موقع متميز بها للمكتبة”، ذكر أن خزانة الضحاك “تعكس موسوعيّته”، ما جعله يعقد عليها الأمل في إفادة طلبة متعددي المشارب، في ظل شحّ خزانات جامعية.
مصطفى بنحمزة، عضو المجلس العلمي الأعلى ورئيس المجلس العلمي الجهوي بالشرق، قال إن الحاضرين شهود “فعل حضاري مغربي، يحسن بنا أن نشارك فيه جميعا”؛ فـ”التصدق بالكتاب إحياء لسنة نبوية، كانت فاعلة في التاريخ كله، ففي حديثه صلى الله عليه وسلم عن الصدقة الجارية، قال إن منها علم ينتفع به، وفي روايات ‘علم ورّثه’، فاندفع الناس ليكونوا من أهل هذه الحظوة ليهبوا علمهم لمن يأتي بعدهم”.
وواصل بنحمزة: “الكتاب في حد ذاته صدقة جارية، وهو تحبيسٌ تجري عليه كل أحكام الأحباس و’من بدّل وغيّر فالله حسيبه’، وهي عبارة حفظت المكتبات الإسلامية، لأنها وديعة في أيدي الناس، وكذلك الحال في المكتبات المغربية التي نحفظ فيها أكثر الكتب عتاقة”.
ثم أردف المتحدث بأن التحبيس سنة “طوّرت المعرفة والعلم، وجعلته يكون في أكثر المناطق نأيا عن الحواضر”، وزاد: “الأستاذ إدريس الضحاك يعطينا جميعا هذا الدرس، ففرق كبير بين القول والعمل، وفي أمتنا ولله الحمد خير كثير، وهذه خطوة فيها إعادة اعتبار للكتاب، بعدما ظن البعض خطأ أن وسائل تعلّم أخرى قد استبدلته. والكتاب عنوان للمعرفة، وقديما قيل لولا القاضي عياض لما عُرِف المغرب، وشكيب أرسلان ما عرف المغرب إلا بعد قراءة (النبوغ المغربي) لعبد الله كنون”.
وزاد بنحمزة: “كان السلاطين في تاريخ المغرب إذا ما أرادوا تحبيس كتبهم قاموا برحلة للقرويين (…) وهذا جزء من الفعل المغربي في الثقافة، وجزء مما يسمى الآن ‘تمغربيت’ بمعنى خدمة المعرفة ونشرها”، وذكر أن الضحاك يتحدث من جوانب متعددة، فهو “قانوني، وعالم، ومثقف، وإنسان منخرط في حركة المجتمع لا بعيد عنها”، ثم عاد إلى لقائه المطول به حين معالجة مدونة الأحوال الشخصية الأولى؛ حيث رأى أن “تدبيره هذا الأمر وإدارته كان فنا تعلمنا منه كثيرا”، كما رأى فيه “الصبر فهو يشتغل، شابّا، من الصباح إلى الغروب لا يقطع يومه إلا للصلاة أو الغداء، وهو شديد الانتباه، يصغي إليك ولا ينصرف عنك في الحديث”.
ويرى مصطفى بنحمزة في إدريس الضحاك رجلا “يعطينا فرصة الآن لإيجاد القدوة، نحن جميعا في حاجة إليها. نبحث عن رجالات المغرب ونسائه، عن الكبار، وهم موجودون والحمد لله، ونفتخر عندما نجدهم ونجالسهم”، ثم اختتم مداخلته بالقول: “هذا الشخص بفعله الحضاري (…) أصيل منتم للدين والوطن”.