افتتاح سينماتوغرافي لأولمبياد باريس .. عظمة المدينة وروعة الاستعراض

افتتاح سينماتوغرافي لأولمبياد باريس .. عظمة المدينة وروعة الاستعراض
حجم الخط:

كتب الفرنسي بول غوغان في مطلع كتابه “نوا نوا مذكرات تاهيتي”: قلْ لي ماذا رأيت؟

رأيت في افتتاح الألعاب الأولمبية باريس 2024 ما يلي: لوحات على الماء، زوارق، أعلام بلدان ملونة، رياضيون بملابس من مختلف الثقافات، سيرك متحرك على حدائق فرساي عائمة، وصلات عزف وغناء وتماثيل من لوحات وسينوغرافيا حسية دالة مثل العشاء الأخير قبل أن الغدر، عازف ومغنية على جزيرة صغيرة عائمة مضاءة بشعلة تتلاعب بها الريح وسط النهر، أيّة شاعرية… جمهور على الجسور وعلى الرصيف وخلفه حدائق تظهر خضرتها الفاتنة ليلا…

لتوسيع الإطار الممتع للعين، حلّقت مناطيد في سماء باريس؛ مما مكن المخرج التلفزيوني من عرض عظمة المدينة من فوق. سيمكن هذا كل متفرج من مقارنة القرية التي يعيش فيها مع مدينة باريس التي تحتضن ملايين السياح في يوم واحد ولا ينقطع فيها ماء ولا كهرباء ولا خبز ولا أنترنيت.

وفي كل هذا رأيت قطرات المطر على فوكيس عشرات الكاميرات التي تنقل المشاهد لملايين الشاشات في كل دول العالم.

من حضّر هذا الذي رأيته؟

حضّره مخرج مسرحي شاب عمل على الإدارة الفنية لعروض الافتتاح المختلفة وقدمه للعالم مخرج تلفزيوني نقله لشاشات العالم من مسرح بسقف مفتوح يمتد ستة كيلومترات.

سبق للمخرج المسرحي توماس جولي Thomas Jolly 1982 أن أخرج عرضا مسرحيا امتد 18 ساعة عن مسرحية “هنري السادس” لوليام شكسبير. وسبق للمخرج التلفزيوني سيمون ستفورث Simon Staffurth أن نقل أربع دورات أولمبية السابقة، وصوّر حفل تنصيب الملك شارل في لندن. مخرج يعرف التعامل مع الكاميرا، سيدة الوسائط.

واضح أن الطاقم المشْرِف على الحفل محترف، وله مُنجز فني يمنحه شرعية القيام بمهمة كبيرة. وهو طاقم وَجَد تحت تصرفه موارد لوجيستيكية مذهلة. في اليوم الموالي للحفل، استضافت إذاعة فرنسا الدولية بعض أفراد فريق إعداد الافتتاح (كُتاب، موسيقيون، سينوغراف، وكوريغراف) والذي عمل سنة ونصف السنة وكان لديه ثلاثة آلاف لباس للممثلين… و12 ديكورا في استعراض فرعوني.

أربع وعشرين ساعة قبل افتتاح الألعاب الأولمبية باريس صيف 2024، تفاخرت وسائل الإعلام الفرنسية باللوجستيك وجماليات المكان.

تخبر القنوات الفرنسية العالم بأن الافتتاح سيكون في نهر وليس في ملعب… ستحضر 205 مواكب دولة في حفل سيمتد حوالي أربع ساعات سيشارك فيه ستة آلاف رياضي وألفا من الفنانين مدعومين بـ45 ألف متطوع. سينتهي الاستعراض عند برج إيفل، حيث قد يتحقق وعد غناء سيلين ديون على منصة الافتتاح (تعمد المنظمون الغموض لخلق المفاجأة) حيث سيكون مائة زعيم دولة سيحرسهم 45 ألف شرطي؛ ضمنهم 1800 شرطي أجنبي…

هذا لوجستيك هائل يكشف استعداد وجاهزية الدولة الفرنسية لرفع التحدي. قبل الاستعراض النهري، سبحت عمدة باريس في نهر السين لتؤكد لمشاهدي العالم أن النهر نظيف، بعد إنفاق أكثر من مليار دولار لتنظيفه من التلوث.

كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يستقبل ممثلي الدول على البساط الأحمر، يكشف سن الضيوف واللباس وطريقة السلام الكثيرَ عن شعوب الدول المشاركة. بالنسبة للمغاربة كان الافتتاح هو الانتصار على منتخب الأرجنتين يوم 24-07- 2024.

صار افتتاح مسابقات الألعاب العالمية حدثا يمزج الفن والرياضة والتموقع الجيوستراتيجي. أخرج الصيني زهانغ ييمو افتتاح الألعاب الأولمبية بكين 2008، وأرخ الممثل موغان فريمان وغانم المفتاح لافتتاح مونديال قطر، وصنعت سيلين ديون (الكندية) وكارل لويس (الأمريكي) وليدي غاغا (الإنجليزية) وزين الدين زيدان (الفرنسي الجزائري) الحدث في باريس. العولمة الديموغرافية في أعلى تجلياتها.

بعد غناء الليدي غاغا التي كانت بطلة فيلم “ميلاد نجمة” وغناء سيلين ديون التي أبكت مشاهدي تيتانيك، أعلن الرئيس الفرنسي افتتاح أولمبياد العصور الحديثة.

على ماذا يدل هذا الذي رأيته؟

يدل على عظمة الفن الفرنسي. هذا استعراض يليق بعاصمة الفنون البصرية في الخمسة قرون الأخيرة، منذ جلب الملك فرانسوا الأول لوحة الموناليزا من إيطاليا ودعا صاحبها الفنان ليوناردو دافينشي في 1516م إلى الإقامة في فرنسا؛ بل وعيّنه كبيرا للرسّامين والمهندسين والمعماريين ومُعلما لهم.

هذا تراث فني. كان دافينشي فنانا ولم يكن كاهنا. وقد مات بين يدي الملك.

لكشف هذا المجد الفني، كان هناك هاجس لدى المنظمين الفرنسيين: كيف كانت صورة فرنسا في القرن التاسع عشر؟ وكيف صارت في بداية القرن الحادي والعشرين؟

كيف يمكن تقديم أفضل الصور عن المدينة والبلد؟

بدأ العرض النهري من الباستيل ووصل إلى برج إيفيل. باريس ونهرها يرويان التاريخ. كان الاستعراض رحلة في الزمن. تُغني الصور والفيديوهات المبثوثة في الشبكة العنكبوتية عن الوصف… لذا سينصرف هذا المقال للتفسير والتعليق.

بدأ الاستعراض النهري بزورق يحمل فريق الإغريق مخترعي الألعاب متعددي الآلهة، فريق يركب قاربا اسمه دون جوان (هذا عنوان فيلم من إخراج آلان كروسلاند 1926 وصدرت صيغ كثيرة منه آخرها في 2022)، ينضاف إلى هذا البطل العاطفي مشاهد مدينة الغواية التي منحت الحرية للنساء مبكرا… وقد تذكر مخرج الاستعراض لوحة دافينشي العشاء الأخير وذكر بها المشاهدين بطريقة خاصة.

الافتتاح استعراض فخم، دعاية، رسم، ألوان كولاج، أقنعة… السينوغرافيا، أي فن تزيين المسرح والديكور بالرسم… ديكورات حية… صور حية تنطق بأل كلمة، كما كتب الفرنسي جيلبيرت دوران في كتابه “الخيال الرمزي”. قال: “إن الصورة هي حضور الشيء بعظمه ولحمه أمام الإدراك” ص5.

الصور تجسيم، لذلك عرض حفل الافتتاح شخصيات الكتب التي طبعت تاريخ باريس مجسمة، تم تأثيث نهر السين بلوحات وتيمات قيم الثورة الفرنسية التي غيرت العصر الحديث، ثم عرض الافتتاح قيم الحرية والمساواة والإخاء والاحتفال والرياضة…. مجسمة مجسدة. لا مكان للتجريد في الاستعراضات الباريسية التي صمّمها المخرج الشاب.

لقد موقع المخرج توماس جولي شخصياته لتكون معزولة ومرئية على ركح مضاء ملون مستطيل يمتد ستة كيلومترات لصنع بهجة العين. كانت الشخصيات (الممثلون) تعرف موقع الكاميرا لكي تتوجه لها، فتتواصل مع مليار مشاهد يعيشون حر الصيف ويتابعون استعراضا صيفيا تحت المطر… مما يهدد بانزلاق الفنانين.

عمل المخرج توماس جولي على تنظيم بصري مشهدي للاستعراض، غربل فيه تاريخ فرنسا ليحتفظ باللحظات الدالة بهدف إدهاش المشاهد. واضح أنه نُظمت بروفات وتمت إدارة الممثلين لكي يتقمصوا الشخصيات التاريخية التي يُؤدونها لتكون مفهومة. لا مجال للارتجال في السينوغرافيا التي تخاطب العين. لذلك، تتكرر لازمة غراف graphy في كل مهن العرض: فوتوغراف، سينيماتوغراف، سينوغراف، كوريغراف… وهذا في كل ما يتعلق بما يقدم للعين كما في كتابة ما قبل الحرف hieroglyph). للإشارة السينوغرافيا هي “تحويل النوع الروائي إلى نوع سينمائي بمعمار تصميم (حركي – حواري- اقتباسي) يهتم بالفكرة والصورة والتقنية” (المعجم الموحد لمصطلحات الآداب المعاصرة 40. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. مكتب تنسيق التعريب. 2015 مطبعة الأمنية الرباط 2015. ص 135). تجلى ذلك في مشهد إعدام الملكة التي لم تنتبه إلى جوع شعبها…

هذ سردية تاريخ فرنسا منثورا على نهر السين، فيه فقرات منتقاة دالة قديمة ومعاصرة.

سياسة اليمين وآية

هذا مثال معاصر للمشاركين في المنصة: صعدت المغنية آية ناكامورا لتغني في الافتتاح، بعد أن رفضها اليمين الفرنسي المتطرف لأنها سوداء ومالية لا تغني بفرنسية سليمة؛ وبالتالي لا تمثل فرنسا. حسب مارين لوبن من حزب “التجمع الوطني”، فآية ناكامورا تهين فرنسا؛ لكن المغنية تحظى بمتابعة مهولة في الحزب العولمي “إنستغرام” و”تيك توك”. لذلك، اعتبر المنظمون أن آية ناكامورا تمثل فرنسا، رغم لكنتها ولون جلدها… وقد كان سير آية ناكامورا بجسدها الاستثنائي على منصة الافتتاح في قلب باريس وهي تشير بحركة تحدي للكاميرا المتراجعة في ترافلينغ للخلف.

هذا مثال صغير عن خلفيات كاستينغ الفنانين والشخصيات المشاركة في الافتتاح. ويمكن إضافة حضور زين الدين زيدان، الذي يطمح إلى تدريب المنتخب الفرنسي؛ لكن هناك من يعترض.

ختاما، لقد مجد الافتتاح تعدد الهوية الفرنسية، ثقافيا وعرقيا وجنسيا. سيوفر هذا موضوع جدل يدعم تمديد زمن التغطية الإعلامية. كثيرون سيعجبون بمعمار المدينة وسيرفضون قيمها، بينما لا تعجبهم مدنهم.

وهذا ليس جديدا، كتب شاعر رجعي: “باريس مدينة الشر والمعادل الحديث لبابل التوراتية”. راينر ماريا ريلكه، كتاب الساعات ص58.