طه عبد الرحمن: قطاع غزة يحرر الإنسان .. والفلسطيني أمام “الشر المطلق”

طه عبد الرحمن: قطاع غزة يحرر الإنسان .. والفلسطيني أمام "الشر المطلق"
حجم الخط:

قدم الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان مفهومه “للشر المطلق”، وفسر “المرابطة الفلسطينية” والغزاوية خاصة، مدافعا عن كون المقاومة الغزاوية خاصة، والفلسطينية عامة، تجدد القيم الإنسانية وتحرر الإنسان في مختلف أنحاء العالم من القيود التي بسطها على فكره وفطرته “الشر المطلق”.

جاء هذا في محاضرة ألقاها طه بمعهد التفكر الإسلامي في أنقرة، ضمن سلسلة من المحاضرات ألقاها بتركيا، واستهل أحدثها بقول: “أسيادي وأساتذتي أهل غزة، كيف لا تكونون أساتذة لي وأنتم أساتذة العالم”، قبل أن يتوجه إلى “السادة العلماء والفضلاء” بقول إنه لن يطيق المعالجة السياسية لـ”الشر المطلق”؛ لأنه لو فعل “لهجمت عليه الدموع من كل جانب، دون استطاعة دفعها”، وهو ما يستعيض عنه أستاذ المنطق وفلسفة اللغة بـ”معالجة فكرية” توجب الصبر؛ و”الصبر والفكر توأمان، فلا يتفكر إلا من صبر”.

الشر المطلق

ذكر طه عبد الرحمان بمصطلح “الشر المطلق”، الذي استعمله لأول مرة في كتابه “ثغور المرابطة” الصادر سنة 2018، “للتنبيه على ظلم كبير قادم ومآس غير مسبوقة تنتظر الأمة والعالم”، وكتب في مطلعه: “في هذا العالم الذي فقد الحياء، حيث بات كل قوي فيه يصنع ما يشاء، لا غرابة أن يلقى الإنسان ألوانا شتى من الأذى؛ غير أن ما يلقاه الإنسان الفلسطيني، متمثلا في الإنسان الغزاوي، من أذى الأباعد والأقارب جميعا ليس له نظير ولا تقدير، ناهيك عما يقاسيه من الكيان الشرير، الذي أضحى إيذاؤه بلا وصف، حتى بلا اسم، كأنه الشر المطلق، إذ إن أشكال هذا الإيذاء أكثر من أن نحصيها واحدا واحدا، فلا نكاد نحصي ما وجد منها في الآن، حتى تفاجئنا أشكال من بعدها أشكال أخرى لم تكن في الحسبان”.

وتابع المحاضر: “لم يخطر في بالنا آنذاك عقد مقارنة علمية بين ‘الشر المطلق’ و’الشر الأقصى’ الذي سبق إلى استخدامه فلاسفة آخرون”؛ لكن وقد وقع الآن “ما كنا نستشعر من ظلم ومآس وجبت ‘المرابطة الفكرية’، وبات لزاما علينا هذه المقارنة”.

واسترسل طه شارحا: “لقد استخدم الفيلسوف الألماني كانط في القرن الثامن عشر مفهوم “الشر الجذري” و’الشر المتجذر’، واستخدمت حنة أرانت الفيلسوفة الأمريكية من أصل ألماني مفهوم ‘الشر الابتذالي’ أو ‘الشر المبتذل’، وقد توفت سنة 1975 (…) ويرى كانط أن الشر غريزة في الإنسان، واستعار المفهوم من التوراة ومفهوم ‘الخطيئة الأصلية’. أما الشر المبتذل بالنسبة لأراندت، فهو شر ينزع القدرة على التفكير من الإنسان، بحيث يصير الإنسان بلا افتكار، وتقول إن السبب في هذا أن الزعيم يدعي الربوبية والوحدانية، فلا يعلو عليه أحد ولا يشرك به”.

ووضح طه أن مفهوم “الشر المطلق” “لا يمكن أن نجعله مفهوما إجرائيا علميا تحليليا إلا إذا بنيناه على الرؤية الدينية للشر، لا شيء آخر، بدليل أن كانط وآرندت أخذا من الدين ‘الخطيئة الأصلية’ و’الوحدانية’، في تحليلين علمانيا تطلعا، وإيمانيين تأطرا”، مع ذكر أن “الشر المطلق أقوى من الشر المبتذل والشر المتجذر؛ وهو الصفة الأقصى للشر”.

ثم أردف شارحا: “لا يمكن أن نفهم معنى ‘الأقصوية’ في الشر الأقصى إلا إذا ربطناه بصفة إلهية هي ‘الكمال’؛ فيكون الشر المناقض للكمال الإلهي؛ وبما أن القول هو العقل، ويوصف بأنه لا يعقل ولا يفهم، وإذا أردنا أن ندرك هذا الشر الذي بات واقعا مشهودا بيننا، نحتاج إلى عقل آخر أعلى من هذا العقل، فوق العقل المجرد، عقلا متصلا بالكمال الإلهي متوجها للقيم، يدرك إمكان هذا الشر وتحققه، ويأخذ بالقيم التي هي دائمة الوصل بالمطلقات، ولا تفهم إلا بردها للصفات الإلهية؛ فلا يفهم العدل إلا بالرجوع للعادل، ولا الحكمة إلا بالرجوع للحكيم سبحانه”.

الغزاوي عالمي

قال طه عبد الرحمن إن “المرابط الفلسطيني” المتمثل في “المرابط الغزاوي”، نسبة إلى غزة الفلسطينية؛ “هو الإنسان العالمي، وإيذاؤه إيذاء للعالم كله (…) هو اختير من بين البشر كلهم، لتكون له مهمتان تشملان الإنسانية جمعاء، لتجديد القيم للإنسانية، وتحرير الإنسان في العالم”.

وزاد: “أرض فلسطين تجمعت وتجذرت فيها أسباب القداسة؛ والغزاوي يتحرك اليوم في مجال الكمالات الإلهية، لا النقصانات الإنسانية (…) وزمن المرابط الفلسطيني غير زمان غيره، فذاكرة فلسطين قد اتصلت وتداخلت فيها الآثار الروحية (…) ولا أثر روحيا بغير قيمة، ولا قيمة بغير كمال (…) ومهما أصيب وابتلي وما وقع له من الشر المطلق، فإن الإنسان الكامل اليوم هو الإنسان الغزاوي”، وقدرته على التأثير “تجعله ينسى ذاته، ولو ذكر بحقها عليه، وهذا سر كونه في خدمة أخيه الإنسان، لتذكره الميثاق الأول: “ألست بربكم”، ميثاق الربوبية والوحدانية”.

إذن، فهو، وفق قراءة طه عبد الرحمن، “تلبس بهذا الميثاق، ميثاق الإشهاد، كأنه في رباطه ساجد أمام ربه”، ومن هذا “الكمال” يستمد الغزاوي “قيما جديدة، فمن ينكر أن الصمود الذي زانه بما لم يزن غيره، قيمة تولى هو تجديدها، فبلغت من التأثير درجة أن ينسب إليها انتصاره على عدوه، وصل قيمة الصمود بالكمال الصمدي والصمد عز وجل، والأمر ليس بيده، بل اختير لتلهمه الكمالات الإلهية”.

تحرير الإنسان

دافع طه عبد الرحمن، انطلاقا من مفهوم الميثاق بين الله والإنسان في القرآن، عن أن “الإنسان كان حرا قبل أن يواثق ربه”، وأضاف شارحا: “الله خير الإنسان؛ ألست بربكم، ليقول لا أو بلى، وخيره قبلا في تحميله الأمانة، ومن الكائنات ما رفض، والإنسان ذو حرية أصلية، ولا قيمة للميثاق بلا حرية، وهذه حرية أصلية للإنسانية، في مقابل ما يدعوه المسيحيون خطيئة أصلية؛ فالإنسان ليس مخطئا أصليا بل حرا أصليا”.

وزاد: “للفلسطيني حريتان: حرية أصلية، وحرية موافقة إرادته لإرادة ربه؛ أي قبول الأمانة، أن يتصرف ويأتي من الأفعال ما يرضي الله ويوافق إرادته، الأولى حرية الاختيار والثانية حرية الامتثال (…)؛ لا يجاهد ليحرر الإنسان من جهة موافقة إرادته إرادة ربه، بل من جهة الحرية الأصلية حتى ولو لم توافق إرادته إرادة ربه، فهو يحرر الإنسان في الاختيار الأول الذي أعطاه الله للإنسان”.

وبالتالي، “الحرية التي يدافع عنها في غزة، الحرية الأصلية، والفلسطيني يحمل لواء تحرير الإنسان أي رد الحرية الأصلية إليه (…) وإيذاء الفلسطيني الغزاوي وهو نموذج الإنسان، وفي إيذائه إيذاء العالم، وجوانب هذا الإيذاء المادية مشهودة رأينا منها ما لا يطاق (…) لكن هذا الإيذاء أبعد؛ ‘الإبادة الجذرية’ (لا ‘الإبادة الجماعية’ كما سار الاصطلاح)، وتتمثل في (السعي إلى) إبادة الفطرة عند الفلسطيني، وإبادة الأمانة عنده، وإبادة المواثقة”؛ لأن “الغاية الحقيقية هي الإبادة الجذرية، لا مجرد هدف (هدم) العمارات… فهذه وسائل، وعند (الشر المطلق) كل الوسائل تبرر الغاية”.

وشرح طه قراءته: “الشر المطلق لا يكتفي بانتهاك قيم الإنسان الفطرية، بل يهدف إلى انتهاك وإتلاف الوعاء لهذه القيم، وهو الفطرة”، عن طريق “انتهاك القيم التي تحفظ كرامة الإنسان حتى يسلم الفلسطيني لليأس، وانتهاك القيم التي تحفظ قداسة المكان حتى ينزع عنه حق الوجود فيه، وانتهاك القيم التي تحفظ أصالة الزمان حتى يمحو ذاكرته، وكل هذا يجتمع في الفطرة”.

إذن، “الشر المطلق يهدف إلى إتلاف مأوى القيم نفسه، وهو الفطرة، حتى لا يعود الإنسان الفلسطيني قادرا على تمييز الخير من الشر، بل حتى يصير إلى إنكار القيم نفسها، فالشر المطلق لا يرضى إلا بتلف الفطرة”، وبما أن “حمل الأمانة يورث الإنسان حريتي الاختيار والامتثال”، فإن الشر المطلق “يسلب الحريتين، لكي يجعله يفقد الشعور بالمسؤولية بالمرة، بوجهيها المسؤولية عن الامتثال والاختيار، ولا يرضى الشر المطلق إلا بمحو الأمانة”.

وفرّق طه بين أمرين: “نقض الميثاق ونقض مبدأ المواثقة”؛ لأنه “يمكن ألا توفي بتعهدك لكن تحفظ للميثاق قيمته، أما رفض المواثقة كليا معناه ألا ميثاق نهائيا، وإذا كانت الإنسانية تتحدد بالميثاقية، والمعاملة من المواثقة، فإن الشر المطلق يريد أن يخرجنا من الإنسانية، لا أن ينزع منا بعض صفات الإنسانية؛ ويريد أن يوقعنا في المسخ الذي وقع فيه”.

كيفية المواجهة

دعا طه عبد الرحمن إلى “التصدي الأكبر” لـ”الشر المطلق”، باسطا مسلمات التصدي، ومبتدؤها أنه “لا بد أن يكون التصدي الأكبر عالميا، بالتتلمذ على الغزاوي والفلسطيني في تصديه للشر المطلق، من حيث القيم التي يبثها في تصديه، والأصل القيم لا المظاهر”.

وزاد: “التصدي الأكبر آية لا مجرد ظاهرة، والظاهرة كل ما يمكن الإحاطة به، والآية أن ما أحطت به أعده قاصرا عن الإحاطة بالشيء كله، وأرتقي إلى عالم الكمال لأتبين ما استحال علي وفاتني إدراكه في الظاهر”، ثم فهم “الزمن الأخلاقي”؛ “فلكل دين في الفترة التي يكون فيها الدين المنزل تحدد الأخلاق به، والزمن الأخلاقي لليهودية يقف عند ظهور المسيحية، ويقف الزمن الأخلاقي للمسيحية إلى ظهور الإسلام (…) والمعارك التي نخوضها اليوم تتم في إطار الزمن الأخلاقي الإسلامي، ونتحمل مسؤولية تخليق العالم، وتولى الغزاويون التخليق”.

كما قدر طه أن “زمان جولان الفكر وطيران الفكر قد ولى”، فاليوم “زمان الثغور الفكرية؛ وينبغي أن يكون الفكر موجها بضرورة الشعور بالواجب تجاه الأمة والدين وما أريد لك في هذه الحياة، في مجالات فكرية مخصوصة، كل بحسب إمكاناته في الفكر والبحث والتنظير”، علما أن “الشر المطلق قد نسف كل الحدود، فيتوجب إعادة إقامتها للتمييز بين الخير والشر والحق والباطل”.

وقدم المحاضر مثالا برئيس وزراء إسرائيل وخطابه في الكونجرس الأمريكي: “إنه يكذب كذبا مطلقا والآخرون يصفقون، هل بقي إدراك للشر والخير؟! لم يبق أي إدراك للشر والخير (…) ويتعين ملازمة أحداث فاصلة وقضايا مصيرية يواجه فيها الشر المطلق بكل قوة، والمرابطة فيها لإحداث ثغرات تهز كيانه”.

كما نادى المفكر المغربي بـ”التفكر بدل التفكير، للنظر في الآيات لا مجرد الظواهر”، علما أن “التصدي الأكبر يتجلى بأفعال وأحوال خاصة لا يمكن إقصاؤها من التفكير والاستنتاج مثل تحمل الأذى والتهيء للاستشهاد والتهليل والتحميد وتلاوة القرآن والتكبير؛ ولا يمكن إسقاطها من الحسبان، فهي بالذات السر في حصول المدافعة والمصامدة والمصابرة؛ وهي تورث أسبابا روحية لا تحصل للإنسان بغير طريقها، ولا يعقلها التفكير ولا يعتبرها ولا يطيقها، ولكن لا يفيده مطلقا أن يتجاهلها وينكرها”.

وزاد مسطرا على “حاجة استخلاص معان من هذه الأحداث تصبح تنظيرية لنحلل بها واقعنا؛ وهذه مسؤولية المتفكر، ليجدد الفكر والنظرة للأحداث، بإنشاء جهاز جديد من المفاهيم، تبدع لتصف وتضبط ما يحصل في أحداث الشر المطلق، حتى نحلل بها واقعنا”، مع “تجديد القيم والمعاني الفطرية، من المفكر، بوصلها بالكمالات الإلهية (…) وبث هذه المفاهيم والقيم في العالم، بالوسائل المتاحة وغير المتاحة بأن نجعلها متاحة بإرادتنا، لنعيد تربية وتخليق العالم على مفاهيم أخلاقية جديدة”.

وقدر طه عبد الرحمن أن “العالم ولو لا يزال مستغرقا في نمط التفكير المعهود، لكن بسبب ما أدى إليه هذا النمط من تسيب تقني، يتطلع إلى نمط جديد من الفكر يدفع عنه هذا التسيب (…) والعالم الآن كله غزة، لأن حاجته إلى التفكر لا تقل عن حاجتها إليه؛ فالشر المطلق يحاصر العالم، ويعتقله كما اعتقلت غزة، لكن باعتقال خفي لا اعتقال ظاهر، والدليل هو أن الإرادات في الزعامات عطلت (…) ولم تعد تثيرها المفاسد الوحشية، وجمدت العقول في مثقفي العالم وعلمائه ومفكريه، فلم تعد تستفزها إبادته الجذرية. والحاكم ليس الظاهر بل الخفي، واعتقالنا ظاهر وليس باطنا، وقوة الغزاويين أن ظاهرهم معتقل وباطنهم غير معتقل، إنما أولئك (غير الغزاويين والمتتلمذين عليهم) باطنهم معتقل وظاهرهم معتقل أيضا”.