تكريمٌ تركي جديدٌ للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، تُوّج فيه بجائزة فكرية رفيعة، والتقى عقبَه بالمجمّع الرئاسي بالعاصمة أنقرة رئيسَ الجمهورية رجب طيب أردوغان.
يأتي هذا بعدما سلّم الأسبوع الجاري جودت يلماز، نائب الرئيس التركي، الأكاديميَّ المغربي المتخصص في المنطق والفلسفة جائزةَ “المُتَفَكّر لمعهدِ الفكر الإسلامي”، مع ثنائه، وفق وكالة الأنباء التركية، على دور طه عبد الرحمن في “توضيح طرق التغلّب على أزمات الفكر، وبناء عالم أكثر عدلا وأخلاقا”، وإسهامه في التنبيه إلى “ضرورة استعادة الاستقلال الفكري للعالم الإسلامي”.
تكريم مغربي وعربي
جاء هذا التكريم الجديد لطه عبد الرحمان بعد شهور من تكريم مماثل له نظمته جائزة الدوحة للكتاب العربي، التي تحتفي بالإنتاج المعرفي الذي فيه “رفد للفكر والإبداع في الثقافة العربية، وتميّز بالجدّة والأصالة، وأن يشكّل إضافة إلى المعرفة والثقافة الإنسانية”.
وسبق أن وشّح الملك محمد السادس، سنة 2014، طه عبد الرحمان بوسام الكفاءة الفكرية، وهو ما اعتبرَ الموشَّح أنه “لم يكرم فحسب شخصي أو عملي، بل كرم الكلمة الحرة، وكرم الفكرة الحية لدى كل مفكر ولدى كل مبدع في هذا البلد الطيب”، مردفا: “لَمِن عظيم الفخر والاعتزاز أن يكون على عرش هذا البلد الأمين ملك حكيم ينزل أهل الثقافة وأهل الفكر وأهل الأدب وأهل العلم المنزلة التي يستحقون، لا سيما وأن المغرب أضحى اليوم منارا فكريا وأدبيا يشع على العالم العربي، كما كان وما زال منارا روحيا يشع على العالم الإسلامي”.
ومن بين الجوائز التي ظفر بها طه في مسار إنتاجه المعرفي، “جائزة محمد السادس للفكر والدراسات الإسلامية”، التي سلّمها له الملكُ محمد السادس في ذكرى المولد النبوي لعام 1435 للهجر، “مكافأة له على الجهود التي قدمها في خدمة البحث العلمي والفكر الإسلامي”، وفق بلاغ لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية حول الدورة الثالثة عشرة من الجائزة.
وفي سنة 2019، دعت أرفع مؤسسة فكرية مغربية رسمية طه عبد الرحمن ليحاضِرَ بها، وقال عبد الجليل الحجمري، أمين السرّ الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، إن “طه عبد الرحمن مفكّرٌ، ومثقّف مسؤول، وفيلسوف مجتهد مهموم بأسئلة أمّته وعصره، ومنشغل بالإسهام المنهجي، والفكري الخصوصي والمنطقي، من أجل تقديم إجابة الفكر العربي والإسلامي عن أسئلة العصر، وإشكالِيّاته المعقّدة والمترابطة من منظور فلسفته”.
وتوجّت جائزة المغرب للكتاب طه عبد الرحمان مرّتين: في سنة 1988 عن كتابه “في أصول الحوار وتجديد علم الكلام”، وسنة 1995 احتفاء بكتابه “تجديد المنهج في تقويم التراث”، كما سبق أن توّج كتاب طه “سؤال الأخلاق” سنة 2006 بجائزة الدراسات الإسلامية التي تقدّمها منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة “إيسيسكو”.
طه عبد الرحمن الذي فضلا عن خَطّه كتبا بالعربية والفرنسية والإنجليزية، فإن من لغات بحثه الألمانية واليونانية القديمة واللاتينية، وحصل على شهادة دكتوراه السلك الثالث من جامعة “السوربون” الفرنسية سنة 1972 في “فلسفة اللغة”، ثم دكتوراه الدولة من الجامعة نفسها بأطروحة في “المنطق والمنهجية الأصولية”، ودرّس ثلاثةَ عقود ونيّف مناهج المنطق وفلسفة اللغة بجامعة محمد الخامس بالرباط، وبجامعات دول عديدة، من بينها تونس، والجزائر، ومصر، والسودان، وليبيا، والعراق.
حقّ “الاختلاف الفلسفي”
ترتبط بمنجز طه عبد الرحمن مفاهيم من قبيل “الائتمانية” و”بؤس الدهرانية” و”العقل المُسَدَّد”، ويرى أن أصل الفلسفة كونها “ليست فكرا مجرّدا” بل “سيرة حيّة”، وأنها في الأصل ليست التفكير الذي يتوسل بالعقل المجرد “وإنما هي ممارسة حية تتوسل بالعقل المسدَّد، إصلاحا للإنسان”.
كما يدافع طه في علاقة “الفلسفة” و”الحكمة” عن أنها في الأصل لم تكن علاقة امتلاك بل “علاقة ائتمان؛ فالفلسفة في أصلها عبارة عن الائتمان على الحكمة، حيث يتعين على الفيلسوف أن يعود إلى هذا التصور الائتماني للفلسفة”، كما يدافع عن “الفلسفة المسدَّدة”، برؤية أن “الفلسفة ليست تفكيرا في الأشياء على مقتضى العقل المجرد، وإنما هي ممارسة حية على مقتضى العقل المسدّد، ابتغاء إصلاح الإنسان”.
ويرى صاحب “روح الحداثة” أن الخروج من “عقمنا الفلسفي” يتطلب “أن نُكوِّن لأنفسنا مفاهيم وتصوّرات فكرية نستنبطها من عريق ثقافتنا، ونشتغل عليها بما أوتينا من قدرات عقلية ومعنوية، تدليلا عليها وتطويرا لها واستنتاجا منها وتوظيفها لها، فإن وافقَت هذه المفاهيم والتصورات، تحديدا لها وتنظيرا، ما عند الآخرين فبِها ونِعمت؛ وإن لم توافقه، فإنما هي إثراء للمجال الفلسفي، إذ يضيف إليه من الأفكار ما لم يكن هؤلاء يعدُّونه كذلك، أو هي توسيع للأفق الفلسفي”.
كما يدعو كاتب “روح الدين” إلى نظرية سمّاها “ائتمانية”؛ تنبني على مسلَّمة منهجية أساس، هي أن الإيمان يَعْقِلُ كما أن العلم يَعْقِلُ، والفرق بينهما أن عَقْلَ العلم ينظر في الظواهر الفرعِ، وعقل الإيمان ينظر في الآيات الأصل، مع تنبيهِه إلى أن الفعل السياسي في مقتضاه الحداثي “قاصرٌ عن الوفاء بالمقتضى العالمي لميثاق الائتمان”، مما يتطلب مقتضى يقوم على الأمانة والمعاملة “تآخيا بدلا عن المواطنة”، لأن الفعل الحداثي يدّعي إقامة الدولة على أسس عقلية ومقاصد عدلية، أرضا وسيادة ومواطنة، بينما هي “عناصر تستغرق في التملّك بما يقطع عنها أسباب العالمية”، رغم أن “الإنسان لا يملك شيئا، لأن التملّك ينفي أصل الأمانة”.
ويشرح طه أن ارتباط الإنسان بالأشياء صار مدفوعا بإرادة تملكها، حتى أضحى هذا الكائن لا يرى ارتباطا بدون امتلاك، وهو ما دفعه إلى المسارعة إلى الاستيلاء، وهنا “حَدَث التسلّط الذي يزيد على عموم التملك بإحاطة عنصر إضافي هو القوّة، سواء كانت مشروعيتها دينا أو وراثة أو أمة أو غلبة”.
ويدافع طه عن نظريته قائلا: “وإن استبعد البعض تحقّق مقتضى قائم على الأمانَة، إلا أنه مثال أعلى ينبغي أن يُسدِّد أفعالَ الإنسان، وإلا أهلك نفسه وأهلك بقية العالم معه.”
ومن بين أحدث مواقف المفكر المغربي عقب القصف الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة بفلسطين المحتلة، قوله إن “بقاء الأمة اليوم وفي الغد مرهون ببقاء المقاومة، وهزيمتها لا قدر الله إيذان بفناء الأمة”، و“أعظم مظهر للعقل العربي والإسلامي في العصر الحديث هو ما تجسد في (طوفان الأقصى)، حيث تجلت لهذا المقاوم إمكانيات العقل الإسلامي فاكتشف سعته وقوته، وتجلت أمامه إمكانيات العقل الصهيوني فاكتشف محدوديته وهشاشته، فتحمل المسؤولية العملية تجاه هذه الحقائق.”
كما صرّح كاتب “ثغور المرابطة” بأنه “لولا التطبيع ما أقدمت دولة الاحتلال على ما أقدمت عليه، ولو أن الدول المطبعة اتخذت موقفا لتوقفت تلك الهجمات الإجرامية”، وحدّث طه أيضا بكون “تخاذل الأمة يدمي القلب، خاصة تخاذل المثقفين”، ثم أردف قائلا: “أعتبر أن عددا كبيرا من المثقفين قد خانوا الأمانة وخانوا الثقافة”.