‪ حكواتيو العالم يروون الأحجيات بالرباط‬

‪ حكواتيو العالم يروون الأحجيات بالرباط‬
حجم الخط:

تحت شعار “الأماكن ذاكرة وطن” نظمت فعاليات الدورة الـ 21 للمهرجان الدولي مغرب الحكايات، برئاسة الدكتورة نجيمة غزالي طيطاي.

وعلى مدى ثمانية أيام تحول تسعة عشر فضاء داخل الرباط وخارجها إلى شواهد تستعيد ماضيها، ترسم حاضرها وتجلي مستقبلها، من خلال تاريخها المكتوب والشفوي، من خلال أساطير تبوح بسحر الأماكن، تجعل منها نقط لقاءات حية، مسربلة بسر الحكايات.

وبمضامين أحجيات، تغرق في وهاد الماضي، لتنثرها لحظات تأمل وحكمة، تحيي في ذاكرة المتلقي توقا دفينا إلى عيش زمن طفولي، أغنت مخيلات الصغار والأمهات والجدات في الماضي، بعوالم يتداخل فيها المتخيل بالمُتأمل والموروث الشفاهي.

وشكلت أرضية ساحاة لقاء الحكواتيين فسيفساء تموج بألوان الألبسة، بنمنقات الحلي والزينة، وإيقاعات الطبول الإفريقية والمغربية والألعاب النارية، ورقصات فلكلورية وأخرى مستوحاة من نبع الماضي وغياهب الذاكرة، التي كونت في انسجامها، وحدة متجانسة، نسيجا يحاكي ألوان قوس قزح، جاد به القادمون من فجاج عميقة، من القارات الأربع، من السنغال، والبنين، وموريتانيا، والمغرب، وتونس، ومصر، وسلطنة عمان، إضافة إلى السعودية وتركيا، وإسبانيا وألمانيا، وبريطانيا، وروسيا؛ علاوة على الولايات المتحدة، والأرجنتين.

كما كانت الأماكن شاهدة بسحرها على تناغم الحكاية مع سرها، مع القصيدة الزجلية، مع الموسيقى؛ إيقاعات وطنية ودولية، وسط حضور الألعاب السحرية التي غازلت البهلوانيين، المهرجين، الذين يجوبون الساحات متنقلين بين فسحاتها وظلالها، يقدمون على اختلاف أعمارهم ولهجاتهم ولغاتهم الفرجة في ثوبها السخي وفي حلتها الشعبية.

وتحلق الجمهور، المتعطش لفرجة تلقائية، حول الساحات والفضاءات التي تنبع من وحي اللحظة الأنية، الطالعة من وحي التجاوب بين الحكواتي والجمهور، إذ مثلت الأماكن التي شكلت معالمها وأسوارها التاريخية وفضاءاتها الرحبة خلفية فنية مناظر أسطورية لمشاهد مسرحية حكائية تعتمد على العفوية، وعلى الاستجابة الفورية، تقدم عروضا وليدة الحاضر.

الارتجال كان حاضرا، يميل كما مالت الأهواء، الرغبات، التطلعات والتوقعات، وكما اقتضته الانسيابية، التي شملت مشاهد فجائية لا يحتويها الزمان ولا يصهرها إلا المكان. كما كان اختيار الأماكن فرصة للزوار القادمين من البعيد للتأمل في تاريخها، للعودة منها بنبذة عن تاريخ إنشائها وتطورها عبر العصور.

وبـ”باب لحد” مثلا، وهو أحد أهم فضاءات عروض مهرجان مغرب الحكايات، وأهم أبواب مدينة الرباط، ذاك الفضاء الذي يحكي عن بوابة كان يعقد فيها سوق كل يوم أحد، كما يعد الباب الوحيد في السور الموحدي الذي مازال يشكل نقطة عبور إلى الجهة الجنوبية للمدينة، إضافة إلى باب العلو.

لقد شيد هذا الباب في القرن الثاني عشر الميلادي، في فترة حكم الخليفة الموحدي يعقوب المنصور، ثم أعيد تجديده في عهد السلطان العلوي مولاي سليمان سنة 1814 م. كان هذا الباب فضاء للحكواتيين، وفرجة لعشاق فنون الشارع، قبل الغزو الحداثي لمدينة الرباط وتحولها إلى مدينة إدارية.

وشكلت عشرة فضاءات في الرباط وحدها رافدا من روافد الذاكرة الوطنية، ساحة بوابة قلعة شالة، التي شهدت حفل افتتاح فعاليات مهرجان مغرب الحكايات، واستهل بنوبات من الآلة الأندلسية، وقدمت فيه كلمات ترحيب بالدولة ضيف الشرف إسبانيا، ووزعت جوائز الفائزين بجائزة أحسن حكواتيات وأحسن حكواتيين الدورة الماضية.

وشكلت ساحة الأوداية، وحداؤقها، وساحة مولاي الحسن، و”مني بارك”، وساحة محطة القطار أكدال، ساحة محج الرياض، ساحة متحف محمد الخامس للفن المعاصر وساحة المنال، والمناطق الداخلة في حيز الرباط مثل تمارة، مجالا لاستعادة إحياء الموروث الثقافي المغربي إلى الذاكرة من خلال الحكي والفرجة باشكالها المتنوعة وإمكانياتها البسيطة المتوارثة جيلا عن جيل، المعتمدة على الكلمة الملقاة، والعبارة المُنتقاة، والحكايات المصطفاة من لدن حكواتيين وحكواتيات أكبرهم يبلغ 102 سنة وأصغرهم 10 سنوات.

ولم يقتصر مغرب الحكايات في استحضار الذاكرة على الأماكن الرباطية، بل تعداه إلى جارتها سلا، فكانت ساحة باب المريسة، التي أمر ببناها السلطان المريني أبو يوسف يعقوب سنة 1280، وشارك في بنائها شخصيا، منظر خلفية لأمسيات حكائية وبهلوانية وفرجة فكاهية، تناوب على إحيائها فنانون وفنانات من قلب ساحة الفرجة “جامع الفنا،” مثل محمد باريس، عبد الرحيم المقوري، حجيبة ويونس المقوري، مصطفى الحنش، الفكاهي المسيح وفرقة النار، وحكواتيون شباب يعدون بمستقبل فني قوي لهذا الفن، فن الحكي، مثل هناء القرشي وإبراهيم الضلضالي .

حمل هؤلاء ذاكرة وطن حية مازالت تمد فن الحكي بمواهب خلاقة، مع فنانات وفنانين قادمين من مدن ودول مختلفة، ليقدموا فوق هذا الركح أشكالا تعبيرية لا مادية للجمهور السلاوي، الذي كان مواكبا وبحرارة لكل الأمسيات التي عرفتها هذه الساحة.

وعرفت منصة هذه الساحة في الليلة الختامية للعروض تسليم مدالية سفير مغرب الحكايات لكل من الحكواتي المراكشي اللامع محمد باريس، والحكواتية المتميزة العمانية ثمنة الجندل، والحكواتي الإنجليزي سيف تونسند.

ولم يغفل مغرب الحكايات مناطق مغربية أخرى، سواء كانت في جوار مدينة الرباط، مثل الهرهورة وتمارة، التي لم ينتظر مهرجان مغرب الحكايات ليحج جمهورها إليه داخل مدينة الرباط، بل حج هو بفنانيه إلى جمهور هذه الأماكن كل ليلة على مدار أيام المهرجان، متمثلا بمقوله: “تقريب الحكاية من المواطنين”، أو تقريب الحكاية من أماكن تجمع المصطافين.

وإذا كان مهرجان مغرب الحكايات، الذي تشرف عليه الأكاديمية الدولية مغرب الحكايات للتراث الثقافي اللا مادي، شد الرحال السنة الماضية إلى الوسط الشمالي للمغرب، من خلال قافلة الحكي، إلى جنان سبيل مدينة فاس وساحة الهديم بمكناس، فإنه اختار هذا العام التوجه إلى مدن غرب المغرب: الخميسات، سيدي قاسم وأخرى على الساحل الأطلسي.

جمهور القنيطرة كان له لقاء مع الموعد الفني في ساحة محطة القطار، كما التقى بالشغوفين في العرائش في ساحة باب البحر، وفي الموقع الأثري الروماني ليكسوس، وساحة المدينة في أصيلة، وساحة الأمم المتحدة وساحة السوق البراني في طنجة.

ورغم تعدد الأماكن، التي تحمل ذاكرة الوطن، واختلاف أشكالها، ودلالاتها، إلا أن هدفها الفرجوي والحكائي يبقى واحدا، هو استعادة سر الأمكنة من خلال استحضار الأزمنة الموغلة في غياهب الذاكرة الشعبية. وتحول هذه الفرجة ومعها الحكاية، في لغاتها ولهجاتها، إلى مادة تمكن من استعادة قوتها الفعلية وسر تأثيرها في الوجدان الإنساني، الذي رافقته على مدى العصور.

يشار إلى أن المهرجان عرف مشاركة 180 فاعلا بين حكواتي وموسيقي، وبهلواني وراقص التنورة المصري وسارد للأنساب العلوية الفلاح المصري، والطبول الإفريقية لكناوة المغربية، وراقص الصينية والقرد المراكشي سعدان، والمهرج الرباطي الخطابي، الذي لا تفوته سانحة حتى يكرر ربرتواره التهريجي مثل كل سنة.

ولم تكن أماكن اليابسة وحدها التي تمثل شهادة الذاكرة، بل حتى المياه، برحابتها مثلت مكانا يذكر بحكايات البحر والبحارة، كالسندباد البحري ورحلاته السبع. وعلى هذا المنوال ركب المشاركون بمختلف جنسياتهم ولغاتهم الزوارق الزرقاء، هي تمخر عباب أبي رقراق. كانت رحلة حكائية عبر مياه وادي “بورقراق”، رحلة تستعيد نكهة المكان وشمولية الزمان من خلال معانقة الحكي والحكاية فوق المراكب وهي تربط ضفتي حكاية اليابسة وحكاية البحر.