رؤية مختلفة لـ”الأندلس” تاريخا وحضارة وفكرا، قدّمها أحمد الكمون، في لقاء تقديم كتابه الجديد “البصمة الموريسكية.. معالم من الأثر الأندلسي في الثقافة والمجتمع بالمغرب”، الصادر عن منشورات مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة.
اللقاء الذي سيره فؤاد بوعلي، رئيس الائتلاف المغربي من أجل اللغة العربية، في آخر أيام المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، دافع فيه الباحث الكمون عن أن الأندلس ينبغي أن تكون “رؤية مستقبلية”، فـ”مسألة الأندلس تهمنا جميعا”، وهي حقبة من الحقب، و”في كل مأساة شر وخير”، وينبغي النظر إليها في شمولِها، واستقراؤُها، والنظر فيما استفدناه منها.

وأضاف “الأندلس ليست مجرد حضارة سادت وبادت، بل هي زاهرة كطائر العنقاء يتجدد دائما ويبعث، ويفنى ويتجدد، ظاهرة قديمة جديدة تغيب وتحضر، وتستفزنا دائما وتحدثنا عبر مجموعة من الرموز، وينبغي أن نكون في مستوى قراءتها، والمؤرخون والدارسون العرب، وفي مقدمتهم المغاربة، اهتموا بهذه الظاهرة، لكنهم تعاملوا معها كجسد ميت واهتموا بدراسة جوانب أخرى تاريخية وأدبية وفقهية، وإلى حد ما اجتماعية وعمرانية، دون أن تحظى بدراسة شاملة تصل إلى خصوصية الظاهرة الغابرة الظاهرة”.
وانتقد الباحث رؤيتين للأندلس أولاهما: “الرؤية الانكسارية”، حيث يجعلها “باحثون مرموقون للأندلسيات” بمثابة “قوة تدفع بذاكرتنا دائما إلى الخلف، ولا تدفعنا إلى الأمام”، “كأن زمن الأندلس مر وانتهى وتستحيل استعادته كتجربة إنسانية للاستفادة منها في الحاضر، فتحولت إلى مرثية وحائط مبكى نرجع إليه كلما أصبنا بنكسة أو إحباط، مثل البوسنة وحرب العراق (…) وارتبطت الأندلس بهذه الذاكرة المأساوية رغم أنها دفعة مشرقة نحو المستقبل”.
 وتابع قائلا: “ساهم الأندلسيون أنفسهم في خلق الرؤية الانكسارية بعد تأكدهم من عدم القدرة على صد الزحف المسيحي ويأسهم من عون إخوانهم المسلمين، فكانت رسائلهم بمثابة رسائل وداع لا عودة بعده”، وأدبهم كذلك مثل موشح ابن الخطيب “جادك الغيث” ونونية أبي البقاء الرندي، وباستمرار هذه الرؤية “تحولت الأندلس إلى نوستالجيا تشدنا إلى الخلف”.
الرؤية الثانية المنتقَدَة في اللقاء هي “الرؤية الحيادية، وهي مقاربة تسعى إلى تجاوز هذه النوستالجيا المأساوية، وعدم السقوط في غوايتها، والتحري، لكن خللها في رأينا أنه بدل النظر إلى الظاهرة الأندلسية في شمولها وديناميتها، تنظر إلى تفككها بزعم الموضوعية فتحولها إلى قطع أثرية متحفية”؛ هنا المقامات الموسيقية، أو باب من الأبواب، وهناك، بحثيا، نماذج من الأطعمة والألبسة والعادات، والإبداعات الفكرية والفقهية، “وكفى”؛ أي أن البحث يتوقف هنا.
بينما المطلوب، حسب المتدخل، هو “محاولة استرجاع المفكَّك في وحدة مترابطة تعطي نظرة شاملة لظاهرة الأندلس لتصبح موضوعا للتفكير نستخلص منها الدروس والعبر، فتصير ماضيا يسائل الحاضر من أجل مستقبل أفضل”.

ودافع الباحث عن “الرؤية المستقبلية لكشف مكامن الخلل” بـ”رسالة حضارية إنسانية عابرة للمكان والزمان”. وذكر في هذا الإطار أنه “يوجد من العرب من أحسوا بما توفره الأندلس من نماذج لإصلاح الحاضر والقفز نحو المستقبل”، منهم الشاعر والناقد السوري أدونيس، الذي كتب أن الأندلس “ليست ماضيا اكتمل”، ودافع عن كونها “حضورا يشع كأنها المستقبل”.
واستشهد الباحث بعالم الإناسة المغربي عبد الكبير الخطيبي، الذي رصد نظرة “الحزن العميق” للأندلس، ودعا إلى “تجاوزها” إلى “نظرة للدخول مع إسبانيا، شريكتنا في الإرث الأندلسي، في علاقة جديدة والسعي نحو مستقبل أفضل”، ونادى بعدم العودة إليها “كحي ميت” بـ”نظرة إغرابية غرائبية”، بل التفكير في “إسبانيا بوصفها سؤالا للفكر”، و”فرصة لقاء جديد ومختلف”، يتطلب توظيف الذهن سياسيا وثقافيا واقتصاديا.
واستدرك الباحث متسائلا: ما رغبة الجانب الآخر؟ أتسير في نفس الرؤية؟ أترغب في هذا؟.
ومن بين ما توقف عنده الكمون “الرواية المغربية” وحضور الأندلس فيها، منذ رواية عبد الهادي بوطالب “وزير غرناطة”، فـ”رغم رومانسيتها وطغيان الحدث التاريخي عليها”، تبقى “قراءة جديدة” في توجّه “يتزعمه ثلة من المؤرخين والمفكرين الذين وجدوا في استحضار نموذج الأندلس مجالا ثرّا للتشريح والكشف عن مكامن الضعف لتجاوزها (…) بقراءة الذات ونقدها بغية انتشالها من الضعف والإحباط الذي أصابها”، ومنهم بنسالم حميش، وعبد الإله بن عرفة، وحسن أوريد، “كل حسب منهجه، وزاوية نظره للأشياء، والرؤية الفنية التي يتبناها”.
لكن ما الذي يمكن أن نستفيده من الأندلس في القرن 21؟
يجيب الباحث قائلا: “هي حاضرة في وقت العنصرية واليمين المتطرف والهويات الضيقة. فالفقيه ابن حزم وكتابه “طوق الحمامة” في الحب العذري والعشق، وفي باب معرفة المحب من خلال الفراسة، ذكر كيف كان يجالس في دكانه صديقا يهوديا للحديث عن أمور الدين، وفي هذا دلالة على التعايش الذي تقدمه لنا الأندلس”، كما يستفاد منها، مثلا، “تدبير ندرة الماء والمحافظة على البيئة، وهي من القضايا الآنية الآن التي يواجهها العالم اليوم”.

واسترسل قائلا: “الأندلس حضارة الماء بامتياز، بتقنيات طوّرتها وكيفَتها مع بيئتها بحس عقلاني وديني وجمالي، وأنشأت محكمة الماء ببلنسية، وهي أول حضارة أسست محكمة لتدبير توزيع المياه للفصل في النزاعات الناتجة عن السقي والري، ودمقرطة تدبير الماء كل حسب احتياجاته”. وبالتالي لا يمكن اختزال الأندلس “في الماضي والفردوس المفقود”، بل هي “سؤال مستمر لقراءة الحاضر للعبور به إلى مستقبل أفضل” لأن “التاريخ ليس فقط سجلا للذكريات الماضية، بل كتابا للعبر كما يقول ابن خلدون”.
وختم الباحث أحمد الكمون تقديمَه كتابَه الجديد بالقول: “كم مِن عبر غالية لظاهرة الأندلس لم نستوعبها بعد لأننا لم نتخلّ بعد عن تأثير الصدمة والأسى واليوتوبيا”، لكن ما يحدث اليوم من اعتراف بالمكون الأندلسي جزءا حيا من الهوية المغربية، وإنشاء كرسي خاص به بأكاديمية المملكة المغربية، والاهتمام بالعمارة الإسلامية بالأكاديمية، وزيادة الانفتاح الإبداعي السردي على الظاهرة الأندلسية.. “من شأنه أن يساعدنا على استيعاب أفضل لهذه الظاهرة، وفك شفراتها التي تفتح أمامنا آفاقا مستقبلية”.

 
                     
   
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                    