“قوي في الحرب ضعيف في الحب” .. حياة “نابليون” تتحول إلى ملحمة بصرية
صيغت فرضيات وتكهنات متضاربة منذ أعلنت شركة “آبل” عن إنتاج فيلم “نابليون” للمخرج ريدلي سكوت.
لذا، فإنه بعد عامين ونصف العام من الدعاية، لا يستطيع المشاهد الدخول بذهن خال للجلوس أمام شاشة لمتابعة فيلم كلف 200 مليون دولار وحقق 140مليون دولار بعد أسبوعين.
إليكم الفرضية المؤطرة للمشاهدة:
كيف سيظهر خوان فينيكس في دور نابليون؟
ما الجانب الجديد الذي سيضيئه ريدلي سكوت في بطله؟
سبب الجزء الأول من الفرضية: لقد أعلن عن ترشيح خواكين فينيكس لدور نابليون في قمة نجاح فيلم الجوكر 2019.
سبب الجزء الثاني: صوّرت سيرة نابليون سابقا في أفلام عديدة. فماذا سيضيف سكوت؟
نعرض خلاصة التحقق من الفرضية، بعد المشاهدة.
كان هناك الكثير من الفرنسيين في قاعة السينما هنا في كازابلانكا. ماذا سيقول لهم ماضي فرنسا عن حاضرها؟
يحكي ريدلي سكوت نتائج طموح زعيم بلد فلاحي بئيس ممزق يتحدى بلدا عرف الثورة الصناعية ونهب بحار العالم. لن يُعجب الفرنسيون بهذه المقاربة. بقراءة الفيلم في سياقه، يتضح للمشاهد أن حروب عالم اليوم أشد من كل حروب الماضي.
قدم ريدلي سكوت وقائع وآنات منتقاة من حياة الجنرال في سرد خطي لكرونولوجيا تمتد من لحظة اندلاع الثورة الفرنسية 1789م حتى مطلع القرن التاسع عشر. في كل مشهد رئيسي يكتب المخرج المكان والزمان لتسهيل موقعة المشاهد في الحدث.
يعاين الضابط بونبارت البؤس وفوضى خلال الثورة الفرنسية المزلزلة 1789، حينها تناول الشعب مفاتيح السجون ليتحرر من سجانيه ويعيش مجازر. ليس صدفة أن كتب عنوان الفيلم على الأفيش بالدم على طريقة توقيع نابليون في عقد زواجه.
تاريخيا وسياسيا، كلف الضابط بمهمة ونجح في التحدي فطلب ما فوقه وهكذا صار يترقى. جنرال صارم وحيد وغريب وطموح. يظهر السبب في لقطات بؤس فرنسا في خلفية المشاهد، من وجهة نظر الفرنسيين هذا تقليص من عظمة نابليون.
هاجم نابليون الشجاع موسكو، ففر الروس فوق بحيرة متجمدة. قصفها نابليون، فانهار الثلج وبلع الروس ووضع المخرج الكاميرا في قعر البحيرة ليلتقط غرق الجنود والخيل الجريحة، فاختلط الثلج والدم تدريجيا في نزولهما للقاع…. من هذا الموت تطفو على الشاشة ملحمة بصرية على شاشة من حوالي 40 مترا مربعا تشبع العين.
بصريا، على صعيد الأسلوب الفيلم قصيدة بصرية بالضوء واللون تحت تغيرات الطقس؛ مما يجعل التلاوين تتغير.
إنها شعرية تستلهم اللوحات التشكيلية لزمن الحروب النابليونية. سابقا، اقتبست حركات جسد بطل فيلم الجوكر من لوحات الرسام Egon Schiele. في فيلم نابليون اقتبس سكوت مظهر الإمبراطور من لوحات jacques louis david. تحضر السينوغرافيا في الرسم بشكل أكثر كثافة وقوة ودلالة. ومن هنا، يمكنها أن تفيد مخرجي المسرح والسينما.
بهدف التواصل مع جمهور واسع اعتمد سكوت أسلوب إخراج تقليدي. كانت كاميرا المخرج استقرائية، تصعد من الخاص إلى العام، من وجه الشخصية إلى الفضاء الشاسع… تستكشف المكان الذي يتحرك فيه البطل وحجم الجيش الذي يتبه لإثبات زعامته.
يقدم سكوت تصويرا ملحميا للقاء العدو المهاجم والجيش المدافع… هذا المنهج التواصلي في اللقطات هو الذي ضمن للمخرج ثقة المنتجين حتى سن السادسة والثمانين من عمره. مخرج يقدم الحساب في شباك التذاكر، لذا يستحق ميزانيات إنتاج ضخمة.
لم يقتنع الزعيم نابليون بالنصر في موسكو وقرر أن يغامر، ومن هنا ولدت نهايته.
أية شجاعة في أن يهاجم موسكو، وأن يطارد الروس في اتجاه سانبترسبورغ :
حينها، وقف أمامه ضابط شجاع وخاطبه بالسبب الذي استنبطه ستانلي كوبريك لتفسير هزمة نابليون في روسيا. كان الجنرال نابليون ابن حوض البحر المتوسط الذي لم يعرف الثلج ويريد الوصول إلى شمال روسيا. قال له الضابط:
كيف نذهب إلى سان بترسبورغ في هذا الشتاء الروسي بخيل لا تتناسب والثلج؟
هذا خطأ فادح.
لم يصدق نابليون التحذير، وخسر 560 ألف جندي. تلك بداية النهاية. هزمته الجغرافيا لأنه تجاهل درس سان تزو في فن الحرب. قال سان تزو: “أقم معسكرك حيث الطرق والإمدادات وخط العودة”. خسر نابليون استحق سخرية تولستوي منه لأنه عدو المسيح في رواية “الحرب والسلام”.
لا تنبع قيمة الضابط من شخصه؛ بل من سياق بروزه ليحارب الملكيات الإقطاعية. ثمة تقع مفارقة. عسكري يقود بلد الثورة، ينصب إمبراطورا ويرفض أن يضع الكاهن الأكبر التاج فوق رأسه بيده.
نابليون بونابرت، هزمته الجغرافيا في روسيا الإقطاعية.
وهزمته إنجلترا ملكة البحار في القرنين الـ18 والـ19م في معركة واترلو 1815م. الحرب مسألة موارد وليست مسألة شجاعة فقط. تستهلك الحروب أعمار البشر. عدد الشجعان الذين يموتون في الحروب أقل من الجبناء.
الغريب هو أن البشر يحبون قصص من يهرقون الدم، يسمونهم أبطالا.
خصص سكوت عشرين دقيقة لمعركة واترلو، بعدها جلس نابليون يأكل بشهية غريبة بينما يصغي لشروط الهزيمة والمنفى، صور سكوت الضابط الإنجليزي المنتصر بدون كاريزما. صوره كشخص حقود وقع النصر بين يديه.
إليكم نتائج اختبار الفرضية: ليس في فيلم ريدلي سكوت أي أثر للوجه الساخر للممثل في الجوكر؛ لأن الجنرال رجل سوداوي شكاك لا يعرف المرح.
تقمص خواكيم فينيكش سلوك جنرال متجهم قليل الكلام، وقد كشفت نظرته القلقة سلوكه. لا يمكن لجنرال تسبب في مقتل ثلاثة ملايين شخص أن يمتلك ذرة مزاح البهلوان. جنرال يتواصل بنظراته وحركاته كما تتواصل النحلة حركيا ليدرك المعنى بصريا، كما تخاطب النحلة رفيقاتها حين تكتشف غنيمة.
هذا من ثمار اشتغال الممثل على نفسه العظيم على نفسه لكي يغيّر أداءه.
شكلا: جاء البهلوان يرتدي بزة جنرال. يقول رولان بارت: “هناك دهشة ما في رؤية شخص مألوف لديك مرتديا ملابس مختلفة” (كتاب “الغرفة المضيئة” ص 61).
ما الذي أضافه سكوت لنابليون؟
قدم حكاية عاطفية بلمسة سياسية. يتأسس الفيلم على عمق تاريخي هو التنافس الفرنسي الإنجليزي. بين الحرب والزوجة اختار العودة لمعاقبة الزوجة الخائنة وتقبيلها. كان ولاؤه للفرس والمرأة. الجنرال قوي في الحرب ضعيف في السرير. وهنا، ركز المخرج على الجانب الذاتي.
يحضر البعد السياسي للثورة الفرنسية ليؤثث خلفية القصة، صور المخرج نابليون السوداوي رومانسيا سوداويا يعيش الحب بصعوبة. ضابط غير راض على نفسه. بينما كان جنوده ينهبون الآثار تحت نصب أبي الهول وقف الجنرال يقيس قامته بقامة مومياء فرعون.
تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News