الحجمري يتصفح “حياة الفراشات” ليوسف فاضل.. أيام عسيرة وشخصيات بلا أقنعة
يحاول الروائي المغربي يوسف فاضل الغوص بالقراء في أحداث روايته “حياة الفراشات” من خلال البدء بحدث كبير يخص أبطال الرواية، ثم ينصرف عن الحدث الذي يظنونه محور الأحداث، ويأخذهم إلى متابعة سيرة أبطال الرواية وما حدث لهم في الماضي عبر تشابك في التفاصيل يفضي في النهاية إلى سردية ممتعة لتمكنه الشديد من الكتابة الروائية.
وكما هو شأن روايات يوسف فاضل تبدأ رواية “حياة الفراشات” بحدث كبير هو محاولة الانقلاب في المغرب، التي جرت في سبعينيات القرن الماضي وما صاحبها من أحداثٍ، محاولةً ملء الفراغات التي يغفلها التاريخ.
عبد الفتاح الحجمري، مدير مكتب تنسيق التعريب بالرباط، يثير في قراءته للرواية طبيعة شخصياتها، التي يجدها عاطفيّة ورثائيّة ومُشبعة في حياتها اليومية برومانسيّة تشرح الخاطر، لا بحثا عن زمن ضائع، بل من أجل تخطّي البلاهة اليومية التي تأسر وجودنا، وتخطّي الرتابة نحو ما هو أجمل وأبقى: الحديثُ عن الكينونة بسَعادة غامرة، بحبّ وحَنين.
ويرى الحجمري أن “رواية “حياة الفراشات” تصوّر لحظات حرجة من حياة شخصياتها”، مشيرا إلى أنها “تعلّم قارئها معنى قسوة القدر وروعة الاستكانة إلى رغباتنا الصّغيرة التي قد تحررنا من رتابة اليومي؛ هذه الـ”قد” هيَ التي تجعل عالم مليئا بالمفاجآت المُبهجة وتسمح بِفهم معنى مشاعر الخيبة والإخفاق في الحبّ والسياسة”.
وأشار الناقد المغربي، خلال قراءته، إلى أن الرواية تحاول تصوير شخصياتها من دون أقنعة، وما يختمرها من أحاسيس موزّعة بين الرجاء والمناجاة، والضّجر والصّمت، والحنين وتقلّب الرّغبات بحثا عن زمن جميل تستكينُ إليه، بعيدا عن مفارقاتِ حيٍّ وبَلدٍ.
وهذا نص القراءة النقدية للدكتور عبد الفتاح الحجمري:
يتوزَّع إنتاجه الأدبي بين الكتابة المسرحية والروائية والسيناريو، تحوَّلت مسرحيته “حلَّاق درب الفقراء” إلى فيلم أخرجه الرّاحل محمد الركاب، وأضحى علامة بارزة في تاريخ السينما المغربية. كتب روايات بطرافة وفرادة استوحى أحداثها من المجتمع والتاريخ وحكايات الناس البسطاء. كل رواية من رواياته هي دعوة مفتوحة لتأمل الحال والمآل؛ تفتحُ الرّوايةَ فينفتحُ بين يديك عالم مُبهجٌ يبهرك بشخصيات مشدودة لمصير عاثر، أو زهْوٍ بسعادة عابرة سرعان ما تختفي مثل البرق.
من المألوف إلى اللاّمتوقع، ينسج يوسف فاضل حكايات بأيامها ولياليها لمغالبة أمرين: اليأس والخسران عند شخصيات رقيقة الحال، حالمة وشغوفة بالحياة، اقرؤوا هذه الروايات لتتأكدوا من ذلك: “الخنازير”، “أغمات”، “سلستينا”، “ملك اليهود”، “حشيش”، “ميترو محال”، “قصة حديقة الحيوان”، “قط أبيض جميل يسير معي”، “طائر أزرق نادر يحلق معي”، “فرح”، “مثل ملاك في الظلام” و”حياة الفراشات” التي أقتطف من تقديمها ما يلي:
“ما إن نشرع في قراءة هذه الرواية حتى تنطلق من حولنا الموسيقى، تداهمنا من النافذة، من الجدران الصماء، من ذاكرتنا المنهكة…”؛ والحال أن الموسيقى هي إيقاع سردي ضابط لمجمل التّجربة الرّوائية ليوسف فاضل وعلى امتداد عقود من الكتابة وتخيّل الحكايات.
2
مكنتني قراءة رواية “حياة الفراشات” من الالتقاء بشخصيات رائعة، أعرفكم على بعضها:
عاشور: مُناضل بالاتحاد المغربي للشّغل، حدثت له واقعة غيّرت له مجرى حياته، ذلك أنه قتل جاره انتقاماً لكلبه بعدما انزعج من نباحه، وفرّ إلى ثكنة عسكرية فرنسية ومنها تجنّد في صفوف الجيش الفرنسي وشارك في الحرب الهندية- الصينية. له ولدان سالم وحبيبة عاشا في كنف عمهما بالدار البيضاء؛ أصبح بعد تقاعده من النقابة مولعا بالسهر مع أصدقائه يستعيد أحداث الماضي ووقائعه. يفتخر ببطولة حرب من زمن ولّى.
سالم: فنان موسيقي يعزف في ملهى دون كيشوت، يطمح إلى أن يصبح ذات يوم مغنياً معروفاً ومشهورا؛ قرر ذات يوم الذهاب إلى مبنى الإذاعة بزنقة البريهي بالرباط لتسجيل أغنيته الثالثة. لما وصل مبنى الإذاعة صادف القدر أن يكون ذلك اليوم هو يوم حصول انقلاب عسكري، بحيث أرغمه الانقلابيون على قراءة البيان الأول على الأثير مباشرة. يا لها من صدفة! سيتعرف على سالم كل من سمعه يقرأ البيان، الذي يقوده إلى حتفه لا إلى الشهرة التي ظل يحلم بها. قال سالم في نفسه: “اليوم يوم آخر، يوم طويل لا يريد أن ينتهي. لماذا لا يقرؤون بيانهم بأنفسهم؟ هؤلاء ضباط متعلمون. درسوا في المدارس الراقية. ويعرفون العديد من اللغات. ويستطيعون أن يقرؤوا باللغات كلها التي يريدون. وحتى إذا تعلق الأمر بثورة، فهذه ثورتهم. وما أفكر فيه هو أن ينتهي النهار بأقل خسارة”.
هاني: مصارع من بنسليمان يحلم بأن يصبح محترفاً لذلك يتدرب بجدية في ناد يملكه خاله الذي علمه فنون الكاتش؛ يقول: “لست مصارعا محترفا، ليس بعد … طيلة أسبوع تعرفنا على أنواع الحيل والقبضات المشهورة في هذه الرياضة. وقال للوالدة، في نهاية الاسبوع الثقافي الذي نظمته دار الشباب ببنسليمان، إنني مصارع جيد “.
حبيبة: في الأربعين من عمرها تعرفت على هاني في طريقها إلى معمل النسيج، يصف السارد مشهد لقائهما “… المرأة تتطلع إلى الوصول إلى معمل النسيج تحن أن تنجو بجلدها من مصيدة تعرف أنها ستقع فيها، سواء اقترب المعمل أم ظل بعيدا… الشاب الذي لم يتجاوز العشرين اسمه هاني، والمرأة التي ستحتفل في الغد بعيد ميلادها الأربعين، في حالة ما إذا نجت، اسمها حبيبة”؛ لم يسعف الحظ حبيبة في لقاء الرجل المناسب الذي يبادلها الحب، لم تعثر من بين الرجال ولو على واحد تستطيع أن تأنس إليه.
سيدي أحمد: رجل لطيف وخَدوم يحظى بتقدير خاص من سكان الحيّ لأنه يُيسّر لهم الأمور ويقضي الحاجات: موعد في المستشفى أو متابعة قضية في المحكمة أو استخلاص الوثائق الإدارية.
3
أيامُ الرّواية خمسة: السبت وهو يوم الانقلاب، الأحد يوم عيد الميلاد، الاثنين يوم الحبّ، الثلاثاء يوم النّكسة، والأربعاء يوم السّفر، أيام حاسمة في تحديد مصير شخصيات شعرت كل واحدة منها – لحظة وصدفة – بخواء وُجودي عاشته بتلقائية وسذاجة، وبِرقّة مكّنتها من التّعبير عن هَباء الوقت:
مصير مليء بالخسارة في علاقة حبيبة بهاني المُصارع، وسالم بفاطمة محبوبته المفترضة. مصير آخر بِسِمَة الأفول لسالم الذي تواجد في المكان الخطأ والوقت الخطأ صبيحة يوم الانقلاب لتسجيل أغنية كان يرجو أن تحمل إليه الشهرة التي طالما حلم بها.
هاني يعشق حبيبة، وهي عنه منشغلة بهموم الوقت ـ سالم متعلق بفاطمة وهي عنه غافلة بقصد أو بدونه ـ حجّاج المشرف على المعمل الذي تشتغل فيه حبيبة، يعشقها وهي لا تعيره الاهتمام.
أيّة روايةٍ هاته؟
رواية إخفاق؟ ربما نعم … ربما …
ألم يخفق هاني في تحقيق أمنية أمه التي كانت تأمل أن تراه بطلا مصارعًا؟ ألم يخفق حجاج في كسب قلب حبيبة، ولم تبادله شعورا بشُعور؟ ألم يتمّ طرد عاشور من النقابة إلى أن توفي في ظروف ملتبسة لا علم لأحد بظروفها؟ ألم يلقَ ابنُه سالم نفس المصير؟
ورغم كل هذا وجدتُ شخصيات رواية “حياة الفراشات” عاطفيّة ورثائيّة ومُشبعة في حياتها اليومية برومانسيّة تشرح الخاطر، لا بحثا عن زمن ضائع، بل من أجل تخطّي البلاهة اليومية التي تأسر وجودنا، وتخطّي الرتابة نحو ما هو أجمل وأبقى: الحديثُ عن الكينونة بسَعادة غامرة، بحبّ وحَنين.
هكذا، حين تصوّر الرّواية لحظات حرجة من حياة شخصياتها فلكيْ تعلّمنا معنى قسوة القدر وروعة الاستكانة إلى رغباتنا الصّغيرة التي قد تحررنا من رتابة اليومي؛ هذه الـ”قد” هيَ التي تجعل عالم “حياة الفراشات” مليئا بالمفاجآت المُبهجة وتسمح بِفهم معنى مشاعر الخيبة والإخفاق في الحبّ والسياسة.
لذلك تحدّثنا شخصيات الرواية، من دون أقنعة، عمّا يختمرها من أحاسيس موزّعة بين الرجاء والمناجاة، والضّجر والصّمت، والحنين وتقلّب الرّغبات بحثا عن زمن جميل تستكينُ إليه… بعيدا عن مفارقاتِ حيٍّ وبَلدٍ.
تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News