ذاكرة أمس ويوم الملحون المغربي، احتفلت بها أكاديمية المملكة المغربية، في عرض فني استقبله، مساء الأربعاء، مسرح محمد الخامس بالرباط، بعد شهر من اعتماد اللجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة ”اليونسكو” طلب المملكة المتعلق بإدراج فن “الملحون” في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية.
بعنوان “الدر المكنون في ذاكرة الملحون” قاد هذه الاحتفالية الفنية الوطنية المخرج المسرحي عبد المجيد فنيش، عضو لجنة الملحون بأكاديمية المملكة، بمشاركة 100 من الفنانين والأدباء من مختلف أجيال وتجارب الملحون.

هذا العرض، الذي جمع بين السرد والإلقاء وإنشاد الملحون، قدم سفرا تاريخيا في هذا الزجل وفنه إلى أن تبلور بسجلماسة، بعد تعبيرات زجلية أقدم موثقها “ملعبة الكفيف الزرهوني” التي تحدث عنها ابن خلدون، وحققها عضو أكاديمية المملكة الراحل محمد بنشريفة. كما قدم راهن الملحون الذي كتب في القرن في القرن العشرين، والذي لا يزال ينظم ويغنى في القرن الحادي والعشرين.
وبعد احتفالات بالملحون سبق أن نظمتها أكاديمية المملكة عندما جد جمع ديوان من دواوين “موسوعة الملحون” التي وثقت أشعار أبرز نظامه المغاربة عبر التاريخ، لم يركز هذا الجديد على أغراض العشق ومدح الطبيعة؛ بل سلط الضوء على الملحون الذي يختزن تاريخ المغرب، وجوانب حضارته المتعددة، ووعي أناسه.

تاريخ المغرب هذا في العهد الإسلامي بدأت دولته منذ 12 قرنا، ويؤرخ بتأسس دولة الأدارسة، دون أن يعني ذلك، كما أكدت الاحتفالية، أن تاريخ المغرب بدأ في ذلك التاريخ؛ فقد سبقت ذلك الحضارة الأمازيغية.
وفي بيان مغزى تسمية الملحون “ديوان المغاربة” قدمت الاحتفالية أشعار ملحون متعددة؛ منها ما نظم قبل ستة قرون، وما نظم قبل شهر واحد، في دولة الإسلام، ومنجزات المغرب، والانتماء له، ومكنوناته العلمية والروحية والفنية، وغلاء الأسعار، والفساد الانتخابي، وعودة الملك محمد الخامس إلى عرشه واستعادة المغرب استقلاله، واستعادته أقاليمه الجنوبية، وسعيه التنموي، وإنجازه الكروي في كأس عالم سنة 2022، أو تجربة جائحة “كورونا” سنة 2020، وفاجعة “زلزال الحوز” سنة 2023.

في هذه الفرجة، يحكي الملحون قصته، وبلاغته، ونغمته، ويكرم أعلاما معاصرين له مثل الشيخ الراحل أحمد سهوم، وزجالين منهم عبد العزيز الطاهري، وعازفين مثل محمد الوالي، فضلا عن أعلام حملوا همّ البحث فيه، ونقله إلى المجال الأكاديمي، خاصة محمد الفاسي وعباس الجراري.
ومع حضور الملحون قديمه وحديثه وأسمائه البارزة، حضرت بالموعد أسماء ضخت فيه دماء جديدة، وقربته من جمهور أوسع في زمن ما بعد الاستعمار الذي التقت فيه آذان المغاربة بألوان موسيقية أخرى، فاستحضر المسرحي البارز الراحل الطيب الصديقي والفرقتين الشهيرتين “ناس الغيوان” و”جيل جيلالة”.

ويعي الناظر أن “الدر المكنون في ذاكرة الملحون” ليس مجرد احتفال باعتراف دولي، وبغنى أدبي وفني؛ بل هو استحضار لمسيرة أمة، الأمة المغربية، إنسانا وسياسة وثقافة وذوقا وتاريخا، ومن بصمات هذه المسيرة زجل أبدعته، وغنته، وجعلته ديوانا لتجربة عيشها.
لهذا، تنتهي الاحتفالية بدعوة إلى الإخلاص للملحون، هذا الإرث الذي تطلب مسيرة قرون من التثاقف معجما وفنا وفكرا ومعان وعيشا، وهو إخلاص بابه غنم دره، وتبليغه الأبناء، والوعي بأن الاعتراف الدولي ليس محطة نهاية؛ بل مسؤولية حضارية لحفظ ونشر جزء من ثقافة وإبداع المغرب، اعترف به، أمميا، تراثا من أبدع ما جادت به قريحة الإنسان.
