
رفح في مرمى الجرافات الإسرائيلية .. أربعة آلاف عام تُدفن تحت الركام
في أقصى جنوب قطاع غزة، قامت مدينة رفح، حيث تقاطعت الجغرافيا بالتاريخ، وتعانقت الحدود القديمة مع الجراح الجديدة. لم تكن هذه المدينة، التي تحولت في الشهور الأخيرة إلى ساحة دمار واسع، مجرد نقطة على الخريطة، بل جسّدت موقعا حمل إرثا حضاريا ضاربا في القدم، بحسب ما أورده المؤرخ الفرنسي أستاذ العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية بباريس، جون بيير فيليو، في مقالة نشرتها صحيفة “لوموند” الفرنسية.
تناول فيليو في مقاله بدايات رفح، موضحا أنها نشأت في عهد الفراعنة كمركز لمراقبة بوابة كنعان، قبل أن تتحول عبر العصور إلى ساحة لصراعات بين إمبراطوريات الشرق القديم. خضعت المدينة لحكم الآشوريين، ثم البابليين، فالفرس، إلى أن شهدت في العام 217 قبل الميلاد معركة كبرى بين خلفاء الإسكندر، شارك فيها عشرات الآلاف من الجنود والفيلة الحربية.
واستحضر الكاتب وصف المؤرخ الإغريقي بوليبيوس رفح بأنها “آخر مدن آسيا”، في إشارة إلى موقعها الحدودي الفاصل بين قارتي آسيا وإفريقيا.
وبحسب المقال، أصبحت رفح في العصر البيزنطي مقرا لأسقفية، ثم احتفظت بمكانتها الإدارية عقب الفتح الإسلامي، حين تحوّلت إلى ما عُرف باسم “قلعة الجنوب”، وكانت آنذاك مركزا تجاريا ومحطة لقوافل الحجيج على تخوم الصحراء المصرية، لا حصنا عسكريا بالمعنى التقليدي.
وأشار فيليو إلى أن تأسيس خان يونس في القرن الرابع عشر أدى إلى انحسار الدور التجاري لرفح، مما ساهم في تراجع مكانتها خلال العهد العثماني، حيث تحولت إلى بلدة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها بضع مئات من المسلمين.
ومع مطلع القرن العشرين، رسم البريطانيون حدودهم مع الدولة العثمانية في عام 1906، وجعلوا الخط الحدودي يمر داخل مدينة رفح، ما منحها وضعا استثنائيا كمنطقة حرة للتجار والبدو. واستمر هذا الوضع حتى الاحتلال البريطاني الكامل لفلسطين عام 1917، الأمر الذي حافظ إلى حد ما على حيوية المدينة رغم موقعها الحدودي.
ورأى المؤرخ الفرنسي أن نكبة عام 1948 شكلت منعطفا حاسما في تاريخ المدينة؛ إذ تدفق إليها عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، وأُقيم في محيطها أحد أكبر المخيمات في قطاع غزة، الذي تحوّل لاحقا إلى بؤرة مركزية للنشاط السياسي الفلسطيني، ما جعله هدفا دائما للسياسات الإسرائيلية.
ولفت إلى أن رفح تعرّضت خلال العقود التالية لعمليات عسكرية عدة، من أبرزها مجزرة عام 1956 التي راح ضحيتها أكثر من مئة لاجئ، بحسب تقديرات الأمم المتحدة. وفي عام 1967، أعادت إسرائيل احتلال القطاع، واستهدفت رفح مجددا عبر عمليات تجريف واسعة لأجزاء من المخيم بهدف فتح ممرات عسكرية، ما أدى إلى تهجير آلاف العائلات.
وأضاف أن توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1982 أدى إلى تقسيم المدينة رسميا إلى جزء فلسطيني وآخر مصري، وهدمت القوات الإسرائيلية أكثر من ثلاث مائة منزل ضمن ما عُرف لاحقا بممر “فيلادلفيا” الأمني على طول الحدود.
وفي سياق تتبّع التحولات السياسية، أشار فيليو إلى أن رفح شهدت لحظة تاريخية بارزة في يوليوز 1994، عندما دخلها ياسر عرفات وسط حشود ضخمة، عقب توقيع اتفاق أوسلو. وبعد سنوات، افتتح الفلسطينيون مطار رفح عام 1998، لكنه لم يستمر سوى ثلاث سنوات قبل أن تدمره إسرائيل مع اندلاع الانتفاضة الثانية.
كما شهدت المدينة خلال مطلع الألفية الجديدة مقتل عدد من المتضامنين الأجانب، بينهم الأميركية رايتشل كوري، التي دهستها جرافة عسكرية إسرائيلية عام 2003، والبريطاني توماس هورندال، الذي أُصيب برصاصة قاتلة أثناء محاولته حماية أطفال فلسطينيين.
وتطرّق المؤرخ الفرنسي إلى أثر الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة بعد سيطرة حركة حماس عام 2007، حيث تحوّل معبر رفح إلى شريان إنساني هش، خاضع لمعادلات سياسية مشتركة بين القاهرة وتل أبيب.
وفي ما يتعلق بالتصعيد الأخير، أوضح المؤرخ الفرنسي أن العملية العسكرية التي أطلقتها إسرائيل في أكتوبر 2023 دفعت أكثر بنصف سكان غزة إلى النزوح جنوبا نحو رفح، ما حول المدينة إلى ملاذ أخير قبل أن تتعرض هي الأخرى لعمليات قصف مكثفة وتدمير ممنهج.
وأشار فيليو إلى أنه زار قطاع غزة خلال شتاء عام 2025، وعاين كيف نصب المدنيون خيامهم فوق الأنقاض في محاولات لإعادة ترميم الحد الأدنى من الحياة، قبل أن تنتهي تلك المحاولات مع انهيار الهدنة في فبراير، حين استعانت إسرائيل بشركات خاصة لاستكمال عمليات الهدم.
ونوّه إلى أن رفح لم تعد مجرد نقطة لإنزال المساعدات “اللا إنسانية”، التي غالبا ما تحوّلت إلى مشاهد من الفوضى والعنف، بل أصبحت – بحسب وصفه – مركزا لتجميع ما لا يقل عن 600 ألف فلسطيني، ضمن مخطط قد يفضي إلى تهجير جماعي.
واختتم فيليو مقاله بالتأكيد على أن ما يحدث في رفح لا يندرج ضمن حدود الضرورات العسكرية فحسب، بل يُمثّل، في رأيه، محاولة منهجية لاجتثاث مدينة كاملة من الجغرافيا والتاريخ، ومحو ذاكرة حضارية تمتد لأكثر من أربعة آلاف عام.