
النفط يتجاهل المخاطر الجيوسياسية ويعود إلى منطق العرض والطلب
تشهد سوق النفط الأمريكية تحولًا لافتًا في مزاج المستثمرين والمضاربين، بعد أن أظهرت المؤشرات الأخيرة انسحابًا جماعيًا واسع النطاق من عقود الشراء، نتيجة تصاعد المخاوف من فائض في المعروض وتراجع فعالية العوامل الجيوسياسية في دعم الأسعار.
وترى وكالة “بلومبرغ” أن هذا الانسحاب لم يكن عابرًا، بل جاء ليسجل أدنى مستويات مراكز الشراء الصافية منذ ستة عشر عامًا، مما يعكس حالة من التشاؤم المتزايد بشأن مستقبل الأسعار في الأجل القريب.
وقد كشفت البيانات الصادرة عن لجنة تداول السلع الآجلة في الولايات المتحدة أن صافي العقود الطويلة للمضاربين على خام غرب تكساس الوسيط انخفض بنحو 29,562 عقدًا خلال الأسبوع المنتهي في 12 غشت الجاري، ليبلغ العدد الإجمالي 49,264 عقدًا فقط، وهو أدنى مستوى يسجل منذ عام 2009 عقب الأزمة المالية العالمية التي هزت الأسواق آنذاك.
هذا التراجع الكبير في المراكز الاستثمارية يتزامن مع انخفاض أسعار العقود الآجلة للنفط إلى ما يقارب أدنى مستوياتها خلال شهرين، وهو ما يعزز فرضية عودة السوق إلى معادلة أساسيات العرض والطلب، وتراجع تأثير العوامل الخارجية، خصوصًا العقوبات المفروضة على روسيا، التي طالما شكلت عنصرًا داعمًا للأسعار منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.
وفي تحليله لهذه التطورات، أشار فريق من الاستراتيجيين في مجموعة “تي دي سيكيوريتيز” إلى أن السوق باتت تتعامل ببرود نسبي مع المخاطر الجيوسياسية المرتبطة بالصراع الروسي الأوكراني، مشيرين إلى أن تدفقات النفط الروسي لم تتعرض حتى الآن إلى اضطرابات ذات شأن، وأن العقوبات الغربية لم تمنع بشكل ملموس وصول البراميل الروسية إلى السوق العالمية.
ويضيف التقرير أن “الأساسيات الضعيفة في الأشهر المقبلة، إذا اقترنت بأي إشارات على ضعف في الطلب، قد تعني أن أسعار النفط لم تبلغ بعد القاع”.
في هذا السياق يلفت مراقبون إلى أن اللقاء الأخير، الذي جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم يبعث برسائل تشدد إضافية بشأن صادرات الطاقة الروسية، بل بدا أقرب إلى محاولة لتخفيف التوتر، مما زاد في ارتياح السوق، وقلّص احتمالات اتخاذ إجراءات عقابية قد تؤدي إلى تقليص العرض.
ويأتي هذا التراجع في وقت يتسم بالضبابية في الأسواق العالمية، إذ يواجه الاقتصاد الصيني ـ وهو أحد أكبر مستهلكي النفط عالميًا ـ تباطؤًا في الأداء، بينما تظل مستويات الطلب في أوروبا عرضة للتقلب بسبب أزمات الطاقة والركود الصناعي. أما في الولايات المتحدة، فرغم استمرار النمو الاقتصادي، فإن المؤشرات الاستهلاكية لا توحي بطفرة كبيرة في الطلب على النفط في المدى المنظور.
في المقابل تتواصل الإشارات بخصوص زيادة محتملة في المعروض، سواء من خلال ارتفاع مستويات الإنتاج في الولايات المتحدة أو من خلال تزايد الإمدادات من بعض دول “أوبك” وخارجها، مما يعزز المخاوف من اختلال في التوازن السوقي إذا لم يقابل هذا العرض المتزايد نمو ملموس في الاستهلاك.
ويُرجّح أن تلعب المعنويات السائدة في الأسواق المالية دورًا مؤثرًا في هذا التراجع، إذ إن موجة الحذر التي تسود بين المستثمرين، بسبب غموض السياسات النقدية في الولايات المتحدة وأوروبا، تضيف عاملًا ضاغطًا على أسواق السلع، بما فيها الطاقة. فمع ارتفاع العوائد على السندات، وتزايد جاذبية الأصول الآمنة، يتجه جزء من رؤوس الأموال نحو التخفيف من الانكشاف على الأدوات عالية المخاطر مثل عقود النفط.
وترى مصادر “بلومبرغ” أن سوق النفط الأمريكي يمر بمرحلة تصحيح حاد، لم تُحدده أزمة سياسية أو قرار طارئ، بل تقوده قراءات داخلية باردة لأساسيات السوق وتوقعات واقعية للعرض والطلب.
وأضافت أن هذا الانعكاس السريع في مزاج المستثمرين لا يشير فقط إلى تبدل في التقديرات الفنية، بل يترجم أيضًا إدراكًا متزايدًا بأن العوامل الجيوسياسية، رغم ضجيجها، لم تعد قادرة وحدها على حمل السوق نحو ارتفاعات مستدامة ما لم تصحبها مؤشرات حقيقية على اختلالات هيكلية في الإمدادات.