
معادلة جديدة في الساحل تبعث برسائل مشفرة من مالي إلى الجزائر
في تصريح يحمل رسائل ردعية مشفّرة إلى بعض دول المنطقة، أعلن الجنرال أسيمي غويتا، رئيس جمهورية مالي، على هامش زيارة رسمية قادته إلى العاصمة موسكو، عن حصول بلاده على أسلحة “متطورة وسرية” قادرة، بحسب ما نقلته وسائل إعلام مالية، على قلب التوازنات الجيو-سياسية في المنطقة، مؤكداً في الوقت ذاته أن هذه الأسلحة “لا تشترى بالمال”، بل تمنح في إطار شراكات استراتيجية عميقة. وهو ما اعتبره متتبعون لتطورات الأوضاع في الساحل بمثابة تحوّل نوعي في العقيدة الدفاعية لباماكو، ورسالة تحذير مبطّنة موجهة إلى الجزائر التي تعيش علاقاتها مع مالي أسوأ فتراتها.
يأتي هذا التصريح، وفق قراءات تحليلية متقاطعة، في ظل سياق إقليمي شديد الحساسية تشهده منطقة الساحل الإفريقي بعد تحولات أمنية وعسكرية متسارعة، أبرزها انبثاق تكتل دول الساحل وتعاظم الدور الروسي في الملفات الأمنية بالمنطقة على حساب الأدوار التقليدية لبعض القوى، وفي مقدمتها الجزائر، باعتبارها الطرف الإقليمي الأكثر تورطا في تأزيم الوضع الأمني في شمال مالي، من خلال دعم جماعات مسلحة تتهمها السلطات في باماكو بتلقي تمويل وتنسيق مباشر من أجهزة جزائرية.
معادلة وانحياز
قال عبد السلام مايغا، ناشط إعلامي وسياسي مالي، إن “تصريحات الرئيس المالي أسيمي غويتا تحمل طابعا ردعيا استراتيجيا واضحا، لا يمكن اختزاله في بُعد استعراضي أو دعائي، ذلك أن التلميح إلى امتلاك أسلحة ‘لا تشترى بالمال’، بل تُكتسب فقط عبر شراكات استراتيجية، يكشف عن رغبة واضحة في فرض معادلة ردع جديدة في الإقليم، في وقت تشهد فيه منطقة الساحل تحولات أمنية حساسة، خصوصا بعد تشكيل تكتل تحالف دول الساحل”.
وأضاف مايغا، في تصريح لجريدة جريدة النهار الإلكترونية، أن “غويتا يدرك أن مالي ليست فقط ضحية للإرهاب، بل أيضا مسرحا لمشاريع جيو-سياسية متقاطعة، تمولها أطراف خارجية وتُدار من قبل دول مجاورة تتهمها باماكو مرارا بالتواطؤ، لذا، فإن إظهار امتلاك ‘أسلحة سرية’ هو إعلان غير مباشر عن نهاية مرحلة الضعف، وبداية خطاب سيادي جديد يرفض الوصاية الإقليمية والدولية”.
وسجّل المتحدث ذاته أن “الرسالة موجهة أولا إلى بعض الجيران الذين تتهمهم مالي برعاية جماعات مسلحة أو تسهيل التدخلات الخارجية، وثانيا إلى القوى الغربية – لا سيما فرنسا – للتأكيد على انتهاء زمن الهيمنة العسكرية الغربية، وثالثا إلى الداخل المالي، لتكريس صورة الدولة القوية، القادرة على حماية سيادتها”، مبرزا أن “الجزائر تتصدر المعنيين بهذه الرسالة، وإن لم تُذكر بالاسم، فالعلاقات الثنائية تمرّ بواحدة من أسوأ مراحلها، في ظل قطيعة دبلوماسية، وحادثة إسقاط الطائرة المسيّرة المالية داخل الأراضي الجزائرية، التي اعتُبرت في باماكو فعلا عدائيا واستفزازيا”.
ولفت إلى أن “تصريحات غويتا جاءت في هذا السياق الملتهب، وتُقرأ كتحذير مبطن للجزائر التي تتهمها مالي ضمنيا بمحاولة التأثير في الشمال المالي عبر دعم جماعات موالية لها، أو عبر احتضان شخصيات معارضة لسلطة باماكو. وعليه، فهي رسالة تفيد بأن أي محاولة للمساس بالسيادة المالية ستقابل بقوة رادعة، وأن ميزان القوة لم يعد كما كان”.
وشدد الناشط السياسي المالي ذاته على أن “غويتا لا يسعى إلى كسر هيمنة جزائرية قائمة في المنطقة، بل إلى سدّ فراغات طالما شغلتها أطراف كانت تُسوّق لنفوذها دون أن تترجمه على الأرض، حيث إن الشراكة مع روسيا هي إعادة تفعيل لتحالف قديم يعود إلى ستينات القرن الماضي، أي قبل استقلال الجزائر نفسها، وتوقّف مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ليعود اليوم بقوة ضمن مشروع مالي لإثبات الذات كقوة إقليمية مستقلة”.
واعتبر أن “الشراكة بين مالي وروسيا تعيد صياغة التوازنات الأمنية في الساحل، وتعزز تموقع تكتل دول تحالف الساحل الجديد (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) كقطب سيادي يرفض التدخل الخارجي، ويعيد تعريف الأولويات الأمنية من منظور وطني صرف”، مسجلا أن “روسيا تفضّل اليوم الانخراط الثنائي المباشر مع الدول الإفريقية دون المرور عبر ‘الوسطاء الإقليميين’، وهو ما يضعف حصرية الدور الجزائري التقليدي في المنطقة”.
في المقابل، ذكر المتحدث ذاته أن “روسيا لن تفرّط بسهولة في شراكتها مع الجزائر، الحليف العسكري والطاقي المهم، بل ستعمل على إدارة توازن جديد، يبقي الجزائر في المعادلة ولكن دون أن تكون قادرة على التحكم في مفاتيحها أو الاعتراض على تحركات موسكو، كما أنه من غير المرجح أن تؤدي التوترات الحالية إلى تغيير جذري في مواقف موسكو من الملفات الإقليمية الكبرى مثل قضية الصحراء، لكنها قد تُخفف من حماستها تجاه الطرح الجزائري، خصوصا إذا استمر توتر العلاقات أو تراجعت المصالح الثنائية”.
وفي الملف المالي، أشار مايغا إلى أن “موسكو تبدو أكثر ميلا للانحياز العملي لصالح باماكو، سواء عبر تسليحها أو دعمها السياسي. وإذا استمر التباعد الجزائري-الروسي، فقد تجد موسكو نفسها مضطرة لتوسيع تفاهماتها مع محور الساحل الجديد، على حساب الانخراط العميق مع الجزائر، حيث إن روسيا تراهن على تعددية الشراكات، وستظل تدير التناقضات الإفريقية بما يخدم مصالحها دون أن تلزم نفسها باصطفاف مطلق مع أي طرف”.
سياسة براغماتية
قال جواد القسمي، باحث في العلاقات الدولية والقانون الدولي، إن “تصريح الجنرال المالي أسيمي غويتا يحمل طابعا مزدوجا؛ فهو استعراضي ورادع في آن واحد. فمن جهة، يهدف إلى تعزيز شرعية النظام العسكري داخليا، وإظهار أنه نظام قوي قادر على الدخول في شراكات مع قوى كبرى كروسيا، والحصول على أسلحة متطورة تساهم في حماية السيادة الوطنية أمام التحديات الأمنية، كما يحمل استعراضا للقوة وإعلانا عن تغير محتمل في موازين القوى في المنطقة”.
وأضاف المصرح لجريدة النهار أن “تصريح غويتا رسالة مفادها أن مالي لم تعد لاعبا ثانويا يمكن تجاهله بسهولة. ومن جهة أخرى، هي رسالة ردع موجهة إلى أطراف عدة، منها الجماعات الانفصالية، توحي بقدرة الجيش المالي على ردع هذه التهديدات بفضل القدرات العسكرية الجديدة والمتطورة. ثم إلى الجزائر ولو بشكل غير مباشر لكنه واضح، كما أنها أيضا رسالة موجهة إلى فرنسا، تفيد بأن باماكو لديها الآن حليفا قويا يوفر لها ما لم تتمكن من الحصول عليه من شركاء سابقين”.
وأبرز أن “توجيه رسالة إلى الجزائر بشكل غير مباشر يجد مبرره في طبيعة العلاقات المتوترة بين البلدين، التي وصلت حد القطيعة الدبلوماسية، خصوصا مع إسقاط الجيش الجزائري طائرة مسيرة مالية، حيث يمكن تفسير حصول مالي على أسلحة متطورة وسرية بمثابة رد مباشر على الحادثة؛ إذ يمكن القول إن التصريح عبارة عن رسالة توازن رعب مصغّر، تحاول مالي من خلالها خلق حالة من الردع المتبادل مع الجزائر ومنعها من تكرار بعض الأفعال”.
وذكر الباحث ذاته أن “الجزائر كانت لعقود اللاعب الرئيسي في قضايا وملفات أمن شمال مالي. وبالتالي، فإن مثل هذه التحركات تحاول من خلالها مالي خلق بديل استراتيجي يسمح لها بالتعامل باستقلالية عن الجزائر في قضاياها الأمنية والسيادية، وكسر وصاية الجزائر، لأن مالي ترى في موسكو قوة عالمية قادرة على توفير الدعم السياسي والعسكري الذي لا يمكن لأي قوة إقليمية توفيره، وهذا من شأنه تغيير قواعد اللعبة في المنطقة”.
وأبرز أن “من شأن هذه الشراكات الدفاعية الجديدة بين مالي وروسيا أن تؤثر على التوازنات الأمنية، حيث قد تدفع الجيش المالي إلى شن عمليات عسكرية جديدة وواسعة، مدفوعة بالأسلحة الروسية الجديدة، مما قد يزيد من العنف على المدى القصير ويزعزع الاستقرار الهش في المناطق الحدودية، كما أن هذه الشراكات ستجعل روسيا فاعلا خارجيا بارزا في مالي، مما سيقلص من نفوذ القوى الأخرى، وقد يدفع دولاً أخرى إلى السعي لتعزيز قدراتها العسكرية والدخول في سباق تسلح وعسكرة المنطقة”.
وتابع بأنه “لا يمكن الحديث عن عزل الجزائر بشكل كامل من منطقة الساحل بحكم جغرافيتها، لكن قد نتحدث عن تهميش لدورها التقليدي؛ إذ إن هذه الشراكة من شأنها تهميش دور الجزائر كوسيط وحيد وفاعل مهيمن في شمال مالي، وطبعا هذا التوجه قد يحدث أزمة قد تبقى صامتة، لأن الجزائر لا يمكنها معارضة روسيا بشكل علني حول تسلح خصم إقليمي لها، رغم أن هذا يجعل نفوذها يتآكل، مما قد يضطرها إلى إعادة تقييم استراتيجيتها في الساحل، وربما نشهد محاولة لتحسين علاقاتها مع المجلس العسكري المالي”.
وخلص القسمي إلى أن “روسيا دولة براغماتية في سياستها الخارجية، هدفها تحقيق المصالح وليس بالضرورة التحالفات، فهي تسعى لتعزيز نفوذها وعلاقاتها مع الجميع، ومن غير المرجح أن نشهد تغيرا جذريا ومفاجئا في موقف روسيا من قضية الصحراء، على الأقل في المدى القريب، لكن قد نشهد تغيّرا في نبرتها الدبلوماسية حول القضية مستقبلا، وتفهّماً أكبر للمخاوف المغربية. ومن جهة أخرى، قد تربط روسيا دعمها للجزائر بمدى احترام المصالح الروسية في منطقة الساحل”.