بقلم الأستاذ المهدي الزوات، محام بهيئة الدارالبيضاء وباحث في القانون
يشكل صدور القانون رقم 03-23 بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية، المنشور في الجريدة الرسمية عدد 7437 بتاريخ 8 شتنبر 2025، محطة مهمة في مسار إصلاح العدالة الجنائية بالمغرب. فالقانون ليس مجرد تعديل تقني لنصوص إجرائية، بل هو تعبير عن إرادة سياسية وقانونية لإعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات العدالة، واستجابة “نسبية” لمطالب ملحة عبّر عنها رجال القانون والفاعلون الحقوقيون والمجتمع المدني. غير أن القراءة النقدية لهذا النص تكشف عن مفارقة واضحة: من جهة، إقرار لمكتسبات مهمة تعزز ضمانات المحاكمة العادلة، ومن جهة أخرى، استمرار لقيود تجعل الإصلاح غير مكتمل.
الدفاع في قلب المسطرة
فمن أبرز المكاسب التي حققها القانون الجديد وضع الدفاع في قلب العملية الجنائية، حيث نص على حق الموقوف في الاتصال بمحاميه ابتداءً من الساعة الأولى للحراسة النظرية، باستثناء الحالات المرتبطة بالإرهاب، وهو ما يُعد تحصيناً غير مسبوق لحق الدفاع. كما أوجب حضور المحامي عند الاستماع إلى القاصرين وذوي الإعاقة، مانحاً هؤلاء الفئات حماية مضاعفة. وزيادة على ذلك، مُكّن الدفاع من حضور استنطاق النيابة العامة للمتهم، مع حق تقديم الوثائق وطرح الأسئلة وإبداء الملاحظات.
هذه المقتضيات تُعيد الاعتبار لدور المحامي، وتُجسد قناعة مفادها أن المحاكمة العادلة لا تبتدأ أمام القاضي، بل منذ اللحظة الأولى لتقييد الحرية. لكن السؤال المطروح هو: هل سيُمكن الدفاع من الآليات العملية لتحقيق هذا الدور الجديد؟ وهل النيابة العامة والشرطة القضائية مؤهلة لتقبّل هذه الشراكة في مرحلة ظلت حكراً عليها لعقود؟ الإصلاح هنا طموح في نصوصه، لكنه يحتاج إلى ثورة ثقافية داخل مؤسسات العدالة حتى يتحول إلى ممارسة واقعية.
شفافية ومصداقية المحاضر والتصريحات
منذ عقود ظل الاعتراف في المغرب يوصف بـ “سيد الأدلة”، وهو ما جعل محاضر الشرطة القضائية محوراً للنقاش والجدل. القانون الجديد حاول معالجة هذا الإشكال عبر إقرار التسجيل السمعي-البصري عند تلاوة المحاضر وتوقيعها أو رفضها في الجنايات وبعض الجنح الخطيرة.ك، لكن دون أن تشمل جميع القضايا. هذا المقتضى يعزز الثقة في المحاضر الرسمية ويمنح القاضي وسيلة تقنية للتحقق من صدقية التصريحات، كما يتيح للدفاع سلاحاً قانونياً لمواجهة أي ادعاء بالتعرض للضغط أو الإكراه، فقد كان حريا بالمشرع أن يعمم هذا المستجد على جميع القضايا الجنحية منها والجنائية.
يُسجّل أيضا، أن المشرع لم يذهب بعيداً في هذا المسار، إذ حصر التسجيل في لحظة التلاوة والتوقيع فقط، دون تغطية كامل الاستجواب. وهي ثغرة تجعل الضمانة مبتورة، لأن جوهر الاستجواب وما يتضمنه من أسئلة وأجوبة يظل خارج التوثيق.
إن خطوة المشرع هنا إيجابية لكنها نصفية، تُظهر ترددا في الحسم بين مطلب الحقوقيين بفرض التسجيل الكامل، ومخاوف الممارسة العملية من تعقيدات تقنية أو كلفة مالية.
الاعتقال الاحتياطي بين النص والواقع
يشكل الاعتقال الاحتياطي أحد أعمق إشكالات العدالة الجنائية المغربية، إذ تحوّل من تدبير استثنائي إلى ممارسة شبه اعتيادية، ساهمت في تفاقم الاكتظاظ السجني وانتقاد صورة العدالة. القانون الجديد حاول تقويم هذا الوضع عبر تقليص مدد التمديد إلى ستة أشهر في الجنايات وشهرين في الجنح، وإقرار بدائل حديثة مثل المراقبة القضائية والسوار الإلكتروني. فمن حيث الفلسفة، يمثل ذلك انتصاراً لمبدأ “الحرية هي الأصل والاعتقال هو الاستثناء”.غير أن الواقع قد يُفرغ هذه المكاسب من محتواها. فالمدد، وإن تقلصت، تبقى طويلة مقارنة بالتجارب المقارنة، خاصة مع البطء المزمن في البت في الملفات. كما أن البدائل المستحدثة، مثل السوار الإلكتروني، تحتاج إلى إمكانيات تقنية وبشرية قد لا تكون متاحة في المدى القريب، مما يجعل الإصلاح هنا رهيناً بمدى قدرة المؤسسات على التجسيد العملي، وإلا بقي النص خطوة على الورق دون أثر ملموس في حياة المعتقلين.
العدالة التصالحية والرقابة على النيابة العامة
وسع القانون من نطاق الجرائم القابلة للصلح، خاصة تلك التي تمس الحقوق الخاصة، واستغنى عن المصادقة القضائية على محاضر الصلح. وهو توجه يُعبر عن إدراك متزايد بأن العقوبة ليست دائماً الوسيلة الأنجع لحل النزاعات، وأن العدالة التصالحية تتيح حلولاً أكثر إنصافاً وأقل تكلفة اجتماعية. لكن هذه الآلية تظل مهددة بالتحول إلى مجرد إجراء شكلي إذا لم تُواكبها ثقافة وساطة حقيقية وبنية تنظيمية فعّالة.
في جانب آخر، أقر النص إمكانية التظلم من قرارات الحفظ أمام مستويات عليا من النيابة العامة، وفتح باب الطعن في بعض أوامر الإيداع بالسجن. هذه المقتضيات تعكس رغبة في توسيع الرقابة الداخلية على جهاز النيابة العامة، لكن الملاحَظ أن هذه الرقابة تبقى محصورة داخل الجهاز نفسه، إذ لم يذهب المشرع إلى حد إرساء آليات مستقلة تضمن توازناً فعلياً بين سلطة الاتهام وحقوق الأفراد. وهنا، يظهر مرة أخرى التردد في المضي إلى إصلاح جذري يكرس استقلالية أوسع.
ورش لم يكتمل بعد
لا يمكن إنكار أن القانون الجديد للمسطرة الجنائية يمثل خطوة متقدمة في تكريس المحاكمة العادلة وتعزيز الضمانات الحقوقية. فقد نقل الدفاع إلى موقع مركزي، أدخل الشفافية عبر التسجيل السمعي-البصري، رشّد الاعتقال الاحتياطي وأدخل بدائل جديدة، ووسع مجال العدالة التصالحية. هذه كلها مكتسبات تُحسب للمشرع وتشكل نقلة نوعية مقارنة بالنص السابق. لكن في المقابل، فإن التضييق في نطاق التسجيل، وطول مدد الاعتقال رغم تقليصها، وضعف الآليات العملية للصلح والرقابة، تكشف أن الإصلاح لم يبلغ مداه بعد. نحن أمام نص نصفه انتصار للحقوق ونصفه الآخر تعبير عن التردد.
إن نداءنا اليوم موجّه بوضوح: على المشرع أن يستكمل هذا الورش بجرأة أكبر، وأن يذهب أبعد من “الترقيع”، نحو إعادة صياغة فلسفة العدالة الجنائية برمتها. فالمجتمع المغربي يستحق عدالة جنائية توازن بين حماية الأمن وصون الحرية، بين الردع والإصلاح، وبين سلطة الدولة وحقوق الأفراد. الإصلاح بدأ، لكن اكتماله يظل واجباً ملحّاً وجب أخذه بعين الإعتبار.