بعد أكثر من ثلاثة عقود على المجازر الجماعية التي عصفت برواندا عام 1994، تبدّل موقع هذا البلد الصغير في قلب إفريقيا من كونه رمزا للمعاناة إلى قوة إقليمية صاعدة تتدخل عسكريا وتفاوض سياسيا وتحجز لنفسها موقعا في صلب النزاعات الإفريقية. هذا التحول الجذري، الذي سلطت صحيفة “وول ستريت جورنال” الضوء عليه في تحقيق موسّع نُشر بتاريخ 23 غشت الجاري، يرسم ملامح دور جديد لرواندا بات يثير الإعجاب والجدل في آن واحد.
في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، وتحديدا في مطار غوما الدولي، بدت ملامح النفوذ الرواندي واضحة للعيان؛ فقد تحولت أطلال العربات العسكرية المحترقة وبقايا خوذ الجيش الكونغولي إلى شواهد على المعركة التي خاضها متمردو حركة “إم23” المدعومون من رواندا للسيطرة على المطار في يناير الماضي. ووفقا لتقرير الصحيفة الأمريكية، استخدم المتمردون تكتيكات عسكرية متقدمة حالت دون إعادة سيطرة الجيش الكونغولي على الموقع.
وعلى الرغم من نفي كيغالي تورطها المباشر، فإن الأمم المتحدة والولايات المتحدة أكدتا دعم رواندا لحركة “إم23″، التي تضم مقاتلين ناطقين بالكينية والرواندية، بينهم لاجئون سابقون من التوتسي الكونغوليين عادوا للقتال، بينما تجاوز عدد الجنود الروانديين المشاركين أربعة آلاف، فيما قدّرت منظمات حقوقية عددهم بأكثر من الضعف.
المواجهة الأخيرة، التي خلّفت آلاف القتلى ومئات آلاف النازحين، لم تفضِ فقط إلى تغيير ميداني؛ بل أجبرت الحكومة الكونغولية على توقيع اتفاق سلام مع رواندا بوساطة أمريكية في واشنطن أواخر يونيو الماضي.
واعتبرت “وول ستريت جورنال” هذا الاتفاق “انتصارا دبلوماسيا لرواندا”، لا سيما أنه يُمهّد الطريق أمام استثمارات غربية في قطاع المعادن ويشير إلى إمكانية دمج سلاسل التوريد بين رواندا والكونغو؛ وهو ما تسعى إليه واشنطن ضمن أولوياتها الاستراتيجية.
رواندا، من جانبها، تبرر تدخلها بأنه دفاع عن حدودها وعن التوتسي المضطهدين في شرق الكونغو. وتستحضر القيادة الرواندية المذابح التي وقعت في 1994، حين قُتل نحو 800 ألف شخص من التوتسي والهوتو المعتدلين، لتؤكد أن “أيديولوجيا الإبادة” لا تزال حاضرة في شرق الكونغو. ونقلت الصحيفة الأمريكية عن المتحدث باسم حركة “إم23” أن المقاتلين “لم يجدوا بديلا عن حمل السلاح للدفاع عن التوتسي”.
لكن حكومة كينشاسا تنظر إلى الدوافع الرواندية من زاوية أخرى. فحسب وزير الإعلام الكونغولي، فإن رواندا “تستغل إرث الإبادة لتبرير أنشطة اقتصادية غير قانونية”، متهمة قوات “إم23″ بالاستيلاء على مناجم الذهب والكولتان، وشحن المعادن إلى داخل رواندا، في إطار ما وصفه الوزير بـ”النهب الممنهج”.
وأشار المصدر ذاته إلى أن رواندا، رغم نفيها هذه الاتهامات، تسعى إلى تحويل نفسها إلى مركز إقليمي لتكرير المعادن الإفريقية، وتطرح خطابا اقتصاديا يقوم على الشراكة لا النهب؛ ما ينسجم مع بند مبهم في الاتفاق الأخير يتحدث عن “تكامل سلاسل التوريد” بين البلدين.
في الميدان، تزايدت مؤشرات الانتهاكات الجسيمة. فنقلا عن منظمات دولية، استخدمت القوات المتمردة والحكومية العنف الجنسي كسلاح حرب، وتعرض أكثر من 67 ألف امرأة وفتاة للاغتصاب خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري. كما أُجبر المدنيون في مناطق سيطرة “إم23” على المشاركة في حملات تنظيف أسبوعية، في صورة تعكس الطابع الصارم الذي تتبناه كيغالي داخليا وتُصدّره إلى مناطق نفوذها.
في المقابل، برزت رواندا كلاعب أمني موثوق في مناطق إفريقية أخرى. فقد أشادت “وول ستريت جورنال” بدور الجيش الرواندي في دحر المتمردين الإسلاميين في موزمبيق عام 2021، حيث أوقف تمدد تنظيم الدولة في إقليم كابو دلغادو، وأمّن مشاريع غاز حيوية تديرها شركات غربية كبرى مثل “توتال” و”إكسون موبيل”. كما تشارك القوات الرواندية في بعثات حفظ سلام في إفريقيا الوسطى ومالي وجنوب السودان، وتقدم نفسها كبديل موثوق عن المرتزقة الروس في مناطق الصراع.
وخلص تقرير الصحيفة الأمريكية إلى أن رواندا، بفضل مزيج من التفوق العسكري والانضباط السياسي، فرضت نفسها كقوة إقليمية غير قابلة للتجاهل. وبينما لا تزال الاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان تحوم حولها، تُراهن كيغالي على تحالفات استراتيجية وعلى سردية وطنية تُعيد تعريف موقعها في القارة كضحية بالأمس وصاحبة نفوذ اليوم.