هل يقيّد “اللوبي الإنجيليكاني” موقف ترامب من خطة إسرائيل لاحتلال غزة؟

في أحدث تصريحاته بشأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه لا يؤيد بشكل مباشر خطة إسرائيل لاحتلال القطاع بالكامل، مكتفيًا بالقول إن “على إسرائيل أن تقرر ما إذا كانت ستسمح لحماس بالبقاء هناك”، قبل أن يضيف “بالنسبة لي، لا يمكنهم البقاء هناك”. هذا التصريح، الذي لا يحسم الموقف الأمريكي من الحملة العسكرية الإسرائيلية المرتقبة على غزة، يعكس، وفق تحليل منشور للباحث سعيد عكاشة، خبير الشؤون الإسرائيلية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، نمط الغموض المتعمد الذي طالما طبع سياسات ترامب الخارجية منذ ولايته الأولى، ويبدو أنه بات أداة يستخدمها لتجنب الظهور بموقع الفشل أو التراجع أمام تعقيدات الملفات الدولية.

وحسب التحليل المنشور عبر مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة، فإن موقف ترامب الحالي من غزة هو نتاج تداخل عوامل ذاتية تتعلق بشخصيته وسجله السياسي، إلى جانب اعتبارات موضوعية تتعلق بموازين القوى وحسابات داخلية وخارجية معقدة. فالرئيس الأمريكي كان قد عبّر منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير 2025 عن نواياه لإنهاء الحرب الإسرائيلية في غزة، بل طرح في فبراير الماضي مقترحًا لإرسال قوات أمريكية لإدارة القطاع وتحويله إلى “منطقة مزدهرة” على غرار “ريفييرا شرق أوسطية”، على حد تعبيره، لكنه لم يلبث أن تراجع عن هذه الأفكار، وبدأ يركز لاحقًا على ملف تبادل الرهائن كمدخل محتمل لإنهاء الحرب.

ويشير التحليل إلى أن فشل الهدنة الأخيرة بين إسرائيل وحماس في مارس الماضي، التي كانت ثمرة مفاوضات بدأها سلفه جو بايدن، ثم تبناها ترامب لاحقًا، مثّل لحظة إحراج شخصية بالنسبة للرئيس الأمريكي، خاصة بعدما اعتبر الصفقة التي أنجزت حينها نجاحًا يُحسب له، وقال إنها لم تكن لتتم “لولا انتصاره الانتخابي”. لكن انهيار الهدنة وسقوط رهاناته على إمكانية عقد صفقة جديدة لتبادل الأسرى دفع ترامب إلى الانسحاب خطوة إلى الوراء سياسيًا، وفتح المجال أمام إسرائيل لتوسيع عملياتها في القطاع، دون أن يتحمّل تبعات أي فشل عسكري أو إنساني محتمل.

ويُرجع التحليل هذا التحول في خطاب ترامب إلى رغبة ذاتية في تجنب تحميله مسؤولية استمرار الحرب أو تعثرها، لا سيما مع بدء أصوات في الداخل الأمريكي بالتساؤل عن الفارق الحقيقي بين سياسته تجاه غزة، والسياسة التي كان يتّبعها بايدن قبله، والتي سبق أن هاجمها ترامب بوصفها “عاجزة عن حماية المصالح الأمريكية”. كما يخشى ترامب، وفق التحليل ذاته، من أن يُنسب النجاح في إنهاء الحرب ـ إن حدث ـ إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وليس إليه، خاصة في حال تمكن الجيش الإسرائيلي من القضاء على حركة حماس فعليًا عبر خطة الاحتلال الكامل للقطاع.

ويرى عكاشة أن العامل الذاتي لا يفسّر وحده تمسّك ترامب بسياسة الغموض، بل تدخل في اعتبارات موقفه أيضًا عوامل موضوعية تتعلق ببنية النظام السياسي الأمريكي، وموازين الضغط داخله، وعلى رأسها موقف الكونغرس، وحسابات العلاقة مع اللوبيات الداعمة لإسرائيل، لا سيما اللوبي الإنجيليكاني، الذي يعد أحد أقوى التيارات تأثيرًا في قاعدة ترامب الانتخابية. فهذه الجماعات، التي حصل ترامب على تأييد أكثر من 80 بالمائة من ناخبيها في الانتخابات الأخيرة، تتبنى مواقف عقائدية مؤيدة لإسرائيل، وترى في وجودها في فلسطين تحقيقًا لنبوءات دينية. وتُشكّل هذه القاعدة أحد أهم دوافع ترامب لتجنّب أي مواقف قد تُفسَّر على أنها ضغوط على إسرائيل أو تحدٍ لخيارات نتنياهو.

ويُسلّط التحليل الضوء على دور الإنجيليكانيين في توجيه السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل، حيث أظهر نتنياهو نفسه حرصًا على توثيق العلاقة بهم، بعدما استضاف مطلع الشهر الجاري مجموعة من أعضاء الكونغرس الجمهوريين في مستوطنة شيلو بالضفة الغربية، بحضور مسؤولين أمريكيين ينتمون إلى هذه الطائفة، في خطوة تهدف إلى الضغط على إدارة ترامب لمواصلة دعم العملية العسكرية الإسرائيلية، أو على الأقل عدم عرقلتها. وحسب التقرير ذاته، فإن النفوذ المتزايد لهذا التيار يدفع ترامب إلى اتخاذ مواقف أكثر تحفظًا، خشية خسارة دعم انتخابي حاسم في حال محاولته فرض تسوية تتضمن وقف الحرب دون شروط تلائم الموقف الإسرائيلي المتشدد.

من جهة أخرى، يتبنى ترامب، وفق ما أشار إليه عكاشة، رؤية ترى في حركة حماس إحدى أذرع “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، ويمتد إلى حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن. وهو ما يجعله يلتقي مع الموقف الإسرائيلي في ضرورة نزع سلاح حماس قبل الحديث عن أي تسوية، بل يرى أن إنهاء نفوذ الحركة يصب في صلب الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى كبح النفوذ الإيراني والحد من تغلغل روسيا والصين في المنطقة. غير أن ترامب لا يبدو متحمسًا في المقابل لإعطاء نتنياهو تفويضًا مفتوحًا باحتلال غزة، ربما لعدم قناعته بجدوى الاحتلال العسكري طويل الأمد، أو بسبب إدراكه رفض شركاء الولايات المتحدة، الأوروبيين والعرب، لهذه الخطة.

ويشير التحليل كذلك إلى أن ترامب، في حال استمرار الحرب دون نتائج حاسمة، قد يضطر، تحت ضغط الرأي العام أو التحالفات الدولية، إلى اتخاذ موقف أكثر وضوحًا من الحملة العسكرية الإسرائيلية، خاصة إذا اتسعت الأزمة الإنسانية في القطاع، أو ظهرت مؤشرات على فشل الخطة الإسرائيلية في تحقيق أهدافها خلال المهلة الزمنية التي وعد بها نتنياهو، والمقدرة بخمسة أشهر. وسبق أن أبدى عدد من قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية في إسرائيل والولايات المتحدة تحفظات على هذه الخطة، محذرين من تداعياتها الميدانية والإنسانية، ومن احتمال تحوّل الاحتلال إلى ورطة استراتيجية مفتوحة.

واختتم التحليل بالتأكيد على أن ترامب يجد نفسه اليوم في موقف معقد، حيث يسعى إلى الظهور بمظهر الداعم لإسرائيل، لكنه لا يريد في الوقت ذاته أن يُحسب عليه فشل جديد في السياسة الخارجية، خاصة في ملف حساس تتداخل فيه الاعتبارات الأمنية والضغوط الانتخابية والتحالفات الدينية. لذلك يرجّح أن يواصل نهج الغموض المرحلي، ريثما تتضح نتائج الحرب ميدانيًا، ويتبيّن ما إذا كانت إسرائيل قادرة فعلاً على الحسم العسكري، أم أن الضغوط السياسية والدولية ستفرض على الجميع العودة إلى طاولة التفاوض، وهي لحظة قد يسعى ترامب لاستثمارها مجددًا لإعادة تقديم نفسه كمفاوض قادر على صناعة السلام.

Exit mobile version