في الوقت الذي تتصاعد فيه التوترات الجيوسياسية في المنطقة القطبية الشمالية، تستعد جيوش الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لاحتمالات المواجهة في بيئة قاسية، حيث لا ترحم درجات الحرارة ولا تسمح المعدات الحديثة دائمًا بأداء مهامها كما ينبغي. وتكشف صحيفة “وول ستريت جورنال” في تقرير مطوّل أن الجيوش الغربية تجد نفسها مضطرة إلى إعادة صياغة مفاهيم الحرب في ظل ظروف مناخية لا تشبه ساحات القتال التقليدية، بل تفرض قوانينها الخاصة، من الحرارة الشديدة إلى الانقطاع الكامل في أنظمة الاتصال، مرورًا بانهيار القدرات البدنية والنفسية للجنود.
في شمال السويد، حيث تنفذ القوات الأميركية تدريبات شتوية، يقول ضباط التدريب إن الجنود المتمرسين رياضيًا والذين يفتخرون بأجسام مشدودة ينهارون في اليوم الثالث من البرد الشديد، ليس بسبب قلة اللياقة، بل لانعدام العزل الدهني في أجسادهم. فحتى مع تناول كامل الحصص الغذائية، يخسر الجنود آلاف السعرات الحرارية يوميًا دون ممارسة أي نشاط بدني يُذكر. أما المعدات الإلكترونية، بما فيها الطائرات المسيّرة، فتتجمد بطارياتها أو تتعطل أنظمة التوجيه فيها، ما يفرض على الجيوش العودة إلى الأساليب التقليدية: الزلاجات، الثياب البيضاء المموّهة، والتخييم في الثلج.
ومع تقلّص الغطاء الجليدي في القطب الشمالي، أصبحت الممرات البحرية مفتوحة بشكل غير مسبوق، ما يثير شهية القوى الكبرى لاستغلال الموارد وتوسيع النفوذ. وتبدو روسيا، بحسب التقرير، الأكثر استعدادًا في هذا المجال، إذ تحتفظ بأسطول شمالي ضخم يتمركز في شبه جزيرة كولا، ويضم غواصات نووية وصواريخ بعيدة المدى. الصين بدورها، وإن لم تكن دولة قطبية، فقد وسّعت حضورها في المنطقة عبر أساطيل “علمية” تستخدم لأغراض مدنية وعسكرية مزدوجة، وفق تصريحات مسؤولين أميركيين.
المنطقة القطبية، بخلاف أوكرانيا حيث تهيمن الطائرات المسيّرة على سماء المعركة، تفرض على الجيوش اعتماد تكتيكات بطيئة وصعبة. في هذه البيئة، الوقود يتجمد، والاتصالات تُعطّلها الشفق القطبي، والنجاة تصبح في حد ذاتها إنجازًا. أحد الضباط النرويجيين المخضرمين يتحدث عن تجربة شخصية، حين استيقظ بعد نوم في خيمة ميدانية ليجد جواربه متجمدة بالكامل. وبعد سنوات، لا تزال أصابع قدميه تعاني من آثار الصقيع.
يقول مسؤولون عسكريون إن التخطيط للقتال في القطب الشمالي يتم في ظل غياب مرجعية واضحة. فباستثناء حروب محدودة في فنلندا والنرويج خلال الحرب العالمية الثانية، لم يشهد هذا الإقليم معارك فعلية، ما يجعل التدريبات الحالية تجربة فريدة تُكتب فصولها لحظة بلحظة. ومع ذلك، تبدو السويد وفنلندا أكثر جاهزية، فقد دأبتا على تدريب قواتهما منذ عقود على صدّ هجوم روسي محتمل في بيئات شديدة البرودة.
القلق الغربي يتزايد من أن تستخدم موسكو أراضي القطب الشمالي كمنصة لشنّ عمليات خاطفة على دول مثل فنلندا أو النرويج، أو حتى الاستيلاء المؤقت على مناطق استراتيجية مثل مدينة نارفا الإستونية، أو أرخبيل سفالبارد النرويجي، أو جزيرة غوتلاند السويدية. ويشير محللون إلى احتمال أن تحاول روسيا فرض سيطرتها على ما يُعرف بـ”قمة الشمال”، وهي المنطقة التي تضم شمال النرويج والسويد وفنلندا، ما يمنحها نفوذًا عسكريًا واسعًا على الممرات البحرية الشمالية.
في مواجهة هذا الاحتمال، تبني النرويج وحدات استطلاع بعيدة المدى قادرة على العمل خلف خطوط العدو. هذه الوحدات تختبئ في كهوف ثلجية، وتعيش على صيد الرنّة والسمك، وتسير مئات الكيلومترات دون إمدادات، مستخدمة الزلاجات والموتوسيكلات الثلجية. في إحدى التدريبات، قطع الجنود أكثر من 1500 كيلومتر خلال مئة يوم، ولم يعاد تزويدهم بالمؤن سوى مرة واحدة.
غير أن الصعوبات لا تقتصر على البرد والثلوج، بل تشمل أيضًا خطر الإصابة بالصقيع. أحد قادة الفرق النرويجية يروي كيف أن قائدًا أميركيًا أمر جنوده “بالتجلد والصمود”، ما أدى إلى إصابات بليغة تطلبت الإجلاء الطبي والعمليات الجراحية. ويؤكد أن الاستجابة الصحيحة للبرد ليست المواجهة، بل الاعتراف بقسوته والتكيّف معه.
المعادلة العسكرية في القطب الشمالي لا تزال في طور التكوين. ومع ازدياد الاعتماد على القوات المحلية في شمال أوروبا، وتكثيف الحضور الأميركي في ألمانيا وبولندا، يبدو أن الغرب يحاول بناء استراتيجية دفاعية متدرجة، تستند إلى تمركز تدريجي وتعزيز قدرات الإمداد والتنسيق. لكن الثابت، كما يخلص التقرير، أن الحرب في أقصى الشمال، إن اندلعت، لن تشبه أي ساحة أخرى، لا في تكتيكها ولا في عدوها الأول: البرد.