أمريكا اللاتينية تدخل سباق الذكاء الاصطناعي عبر مشروع “Latam-GPT”

تشهد أمريكا اللاتينية تحوّلًا لافتًا في تعاملها مع الذكاء الاصطناعي، ليس من باب المنافسة المباشرة مع النماذج العالمية الكبرى، بل من خلال مقاربة تركز على الخصوصيات الثقافية واللغوية لشعوب المنطقة. وفي هذا السياق، يُتوقع أن تطلق تشيلي في سبتمبر المقبل، وبالشراكة مع أكثر من ثلاثين مؤسسة أكاديمية وتقنية، أول نموذج ذكاء اصطناعي لاتيني تحت اسم “لاتام جي بي تي (Latam-GPT)”، في محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والهويات المحلية.

انطلقت المبادرة، وفق تحليل نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، من موقف بسيط تعرض له مصمم غرافيك تشيلي حين تلقى ردًا خاطئًا من أحد نماذج الذكاء الاصطناعي المعروفة عند سؤاله عن محطة مترو في سانتياغو، ما كشف عن الفجوة بين النماذج المُصممة في بيئات ثقافية معينة وواقع المستخدمين في دول الجنوب العالمي.

منذ يناير 2023، يعمل المركز الوطني للذكاء الاصطناعي في تشيلي (CENIA) على تطوير المشروع بالتعاون مع شبكة واسعة من الشركاء الإقليميين. وعلى الرغم من محدودية الموارد، نجح الفريق في تدريب النموذج على أكثر من 2.6 مليون وثيقة محلية، وتخزين أكثر من 17 تيرابايت من البيانات في مركز الحاسوب العملاق بجامعة تاراباكا. ورغم أن “لاتام جي بي تي” لا يُضاهي من حيث الحجم نماذج مثل GPT-4 أو LLaMA-3، إلا أن قوته تكمن في جودة البيانات وارتباطها بالبيئة الثقافية اللاتينية.

وبحسب التحليل، يتميز المشروع بجملة من المزايا، أبرزها تمثيله الثقافي واللغوي العميق لمجتمعات أمريكا اللاتينية، بما في ذلك إدماج لغات أصلية مهددة بالاندثار مثل “رابانوي” و”مابودونغون”. كما يسعى المشروع إلى دعم قطاعات حيوية، مثل التعليم والرعاية الصحية والخدمات العامة، من خلال أدوات محادثة ذكية تتلاءم مع السياقات المحلية.

وتشير التوقعات إلى أن “لاتام جي بي تي” قد يسهم في تحسين الرعاية الصحية في المناطق النائية عبر روبوتات دردشة طبية، ويوفر منصة مفتوحة المصدر تتيح للمطورين المحليين تخصيص التطبيقات وفقاً لاحتياجاتهم، ما يعزز الشفافية والسيادة الرقمية على مستوى المنطقة.

وإلى جانب دوره التقني، يُنظر إلى المشروع كرافعة استراتيجية لتعزيز التعاون الإقليمي بين دول أمريكا اللاتينية وتوسيع قدراتها التفاوضية في النظام الرقمي العالمي. فبدلاً من التبعية التكنولوجية، تسعى دول مثل تشيلي والبرازيل وكولومبيا وبيرو والأرجنتين إلى ترسيخ موقع مستقل عبر مبادرات تشريعية واستثمارية، بينها الاستراتيجية البرازيلية التي خصصت أكثر من 4 مليارات دولار للذكاء الاصطناعي حتى عام 2028.

رغم هذه الطموحات، يواجه المشروع تحديات بنيوية عدة، منها ضعف البنية التحتية، وتفاوت تغطية الإنترنت، وغياب تشريعات موحدة لحماية البيانات، إضافة إلى صعوبة إدماج المجتمعات المهمشة في مرحلة التطوير، خاصة في ظل محدودية الموارد المكتوبة بلغاتهم. وقد يؤدي ذلك إلى تأجيل إطلاق النموذج حتى مارس 2026.

كما يُبرز التحليل التحدي المالي، إذ لم يُخصص حتى الآن تمويل حكومي رسمي للمشروع، رغم دعم مبدئي من بنك التنمية الإقليمي وشركة “أمازون ويب سيرفيسز”، ما يدفع الجهات المطورة للبحث عن تمويل إضافي من القطاعين العام والخاص. كذلك، يثير المشروع مخاوف بيئية تتعلق باستهلاك الطاقة والمياه، لا سيما في مناطق تعاني من الجفاف كشمال تشيلي، وهو ما دفع القائمين على المشروع إلى طمأنة السكان باستخدام بنى تحتية تعتمد على الطاقة الشمسية وتقنيات صديقة للبيئة.

ويرى التحليل أن أهمية المشروع لا تتوقف عند نتائجه التقنية، بل في رمزيته السياسية والثقافية، بوصفه تعبيرًا عن إرادة إقليمية في امتلاك أدوات المستقبل الرقمي، وتقديم بديل معرفي وتقني منبثق من واقع محلي. فـ”لاتام جي بي تي” لا يتحدى الشركات الكبرى بقدر ما يتحدى مركزية الذكاء الاصطناعي، ويطرح رؤية جديدة لتعددية تقنية عادلة.

وبينما تمضي أمريكا اللاتينية في هذا المسار، تظل قدرتها على تحويل هذا المشروع إلى نموذج ناجح مرهونة بتوفير بيئة تشريعية واستثمارية حاضنة، قادرة على تسخير الذكاء الاصطناعي لخدمة التنمية الشاملة، بعيدًا عن إعادة إنتاج أشكال التبعية القديمة بأدوات رقمية جديدة.

Exit mobile version