قمة “ألاسكا” تعيد “الذهنية الإمبراطورية” إلى واجهة السياسة العالمية

قال الكرملين، اليوم الجمعة، إن اللقاء المرتقب بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي دونالد ترامب في ألاسكا سيستمر “ست أو سبع ساعات على الأقل”، وفق ما نقله المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف في تصريح للتلفزيون الروسي الرسمي، مضيفًا أن البرنامج يشمل اجتماعًا ثنائيًا، ثم مفاوضات موسعة بين الوفدين، يعقبها مؤتمر صحافي مشترك.

ويُعقد هذا اللقاء في قاعدة “إلمندورف-ريتشاردسون” العسكرية بألاسكا، وهي الولاية التي كانت قد اشترتها الولايات المتحدة من روسيا عام 1867، ما يمنح القمة بعدًا رمزيًا أثار جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية، بينما اعتبر الرئيس الأمريكي السابق، والحالي في ولايته الثانية، أن اختيار ألاسكا “يعكس تاريخًا مشتركًا” بين البلدين.

غياب أوكرانيا عن القمة أثار قلقًا شديدًا لدى كييف، التي عبّر رئيسها فولوديمير زيلينسكي عن استغرابه من عدم دعوته، مشيرًا إلى أن “أي تفاهم بشأن أوكرانيا لا يجب أن يتم بدون أوكرانيا”، وذلك في مقابلة بثتها قناة “سكاي نيوز” البريطانية عشية القمة. كما حذّرت وزارة الخارجية الأوكرانية، في بيان رسمي، من أن “أي اتفاق يتم التوصل إليه دون مشاركة أوكرانية لن يكون ملزمًا أو مقبولًا”.

ويأتي هذا اللقاء في ظل موقف أمريكي متبدّل، إذ سبق للرئيس ترامب أن صرّح في فبراير الماضي خلال زيارته للحدود الجنوبية، بأن “انضمام أوكرانيا إلى الناتو ليس مطروحًا، وهو ما كان السبب الأساسي في إشعال النزاع”.

المحلل السياسي الأمريكي ديفيد سانجر، في تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” صباح اليوم، اعتبر أن القمة “تعكس توجّهًا جديدًا في مقاربة السياسة الدولية من قبل واشنطن وموسكو”، حيث أشار إلى أن ترامب “يسعى إلى صفقة كبرى تعيد تشكيل خريطة أوروبا الشرقية عبر مبدأ مقايضة الأراضي”. وأضاف أن الرئيس الأمريكي “أبدى استعدادًا لرفع العقوبات عن روسيا إذا وافق بوتين على وقف إطلاق النار”، وهو ما أُكد في تصريحات لترامب خلال مؤتمر صحافي مختصر عقده في القاعدة العسكرية ذاتها.

وتحدثت الصحيفة ذاتها عن اصطحاب بوتين وفدًا من رجال الأعمال الروس، في مؤشر على نية موسكو فتح ملف التعاون الاقتصادي مع واشنطن، خاصة في ما يتعلق بموارد الطاقة والمعادن الموجودة في المناطق الأوكرانية الخاضعة للسيطرة الروسية. وفي مقابلة أجراها التلفزيون الروسي مع وزير التجارة الروسي سيرغي مانتوروف، صرّح الأخير بأن “موسكو ترى في القمة فرصة لطرح مشاريع مشتركة في الطاقة والبنية التحتية مع الشركات الأمريكية”.

وكان بوتين قد لمح إلى إمكانية التفاوض على اتفاق جديد للحد من الأسلحة النووية، خلفًا لاتفاق “نيو ستارت” الذي ينتهي في فبراير 2026، وفق ما جاء في تصريح له لوكالة تاس الروسية الرسمية قبل توجهه إلى ألاسكا، حيث قال إن “أي تفاهم مستقبلي حول أوكرانيا ينبغي أن يُتبع باتفاق طويل الأمد للسلام يشمل الأمن الاستراتيجي”.

في المقابل، أفاد ريتشارد بيرنز، السفير الأمريكي الأسبق لدى الناتو، في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز”، أن القمة تمثل “اختبارًا لوحدة الناتو”، محذرًا من أن أي تنازلات يقدمها ترامب لبوتين “قد تقوّض الثقة الأوروبية بالولايات المتحدة، وتفتح الباب أمام تفكيك تدريجي للحلف”.

وأثار تصريح لنائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس، أدلى به لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأحد الماضي، استياءً في أوكرانيا وأوروبا، حين قال إن “مرحلة تمويل الحرب في أوكرانيا انتهت، وإن على أوروبا أن تتولى المسؤولية بنفسها إذا أرادت استمرار الدعم”، في إشارة إلى تحوّل في السياسة الخارجية الأمريكية من الدعم المفتوح إلى التموضع الحذر.

المؤرخ الأمريكي دانيال إيمرفار، من جامعة نورث وسترن، عبّر في تصريحات صحافية عن مخاوفه من عودة “الذهنية الإمبراطورية” إلى المشهد الدولي، مشيرًا إلى أن “اللقاءات الثنائية المغلقة بين القوى الكبرى، خارج أطر الشرعية الدولية، تُعيد إنتاج منطق الهيمنة الذي ساد في القرن التاسع عشر”، موضحًا أن هذا المنطق يقوم على تجاهل إرادة الدول الصغيرة وتجاوز القوانين الدولية، بما يكرّس نظامًا عالميًا قائمًا على تفاهمات ثنائية بين القوى المهيمنة.

وقال إيمرفار إن هذه القمة بين ترامب وبوتين، التي تُعقد دون إشراك أوكرانيا أو شركاء الولايات المتحدة في أوروبا، تمثل نموذجًا واضحًا لهذا التوجه، الذي يتناقض مع المبادئ التي حاول النظام الدولي تكريسها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها احترام سيادة الدول وعدم شرعنة الاحتلالات أو فرض التسويات بالقوة.

وأضاف أن “ترامب وبوتين يبدوان مرتاحين في هذه العودة إلى قواعد لعبة النفوذ التقليدية”، مشيرًا إلى أن الحديث عن “مقايضات أراضٍ” و”ترسيم جديد للحدود” دون مشاركة الدولة المعنية يعكس جوهر هذه الذهنية، التي تُقدّم مصالح الكبار على حساب العدالة الدولية، وهو ما قد يؤدي إلى تراجع الثقة بالنظام العالمي، لا سيما في مناطق النزاع.

وتابع المؤرخ الأمريكي بالقول: “لطالما شكّلت النزاعات الكبرى فرصة للقوى الإمبراطورية لإعادة رسم الخرائط وفق مصالحها، لكن الفرق اليوم أن هذا يحدث تحت أنظار العالم، وبموافقة ضمنية من أطراف يفترض أنها تدافع عن القانون الدولي”، مضيفًا أن “ما يجري في ألاسكا ليس مجرد قمة، بل اختبار حقيقي لمستقبل النظام العالمي وميزان القوى فيه”.

Exit mobile version