في تحول لافت في مقاربة العدالة الجنائية، بدأت ولايات أميركية من مشارب سياسية متباينة، مثل أوكلاهوما وداكوتا الشمالية وماساتشوستس، في إرسال وفود رسمية إلى ألمانيا للاطلاع على نموذج السجون هناك، حيث تسود فلسفة قائمة على “الكرامة والإصلاح” بدلًا من العقاب الصارم، وفق ما نقلته صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير موسع نُشر يوم 25 يوليوز 2025.
وخلال جولة شملت أربعة سجون ألمانية اطّلع مسؤولون أميركيون على نظام يحاكي الحياة الطبيعية إلى حد بعيد. السجناء هناك يرتدون ملابس مدنية، ويُسمح لهم بطهو طعامهم، والمشاركة في أنشطة رياضية، ومتابعة تعليمهم، بل مغادرة السجن نهارًا للالتحاق بالعمل أو الدراسة. وفي بعض المؤسسات يحتفظ النزلاء بحق التصويت، ويقيمون في غرف فردية أقرب في تصميمها إلى السكن الجامعي منها إلى الزنزانات التقليدية.
ما أثار اهتمام الوفود الأميركية أن هذه الظروف “الإنسانية” لا تعني بالضرورة تراخيًا في الأمن؛ فمعدلات العنف وإعادة الإجرام في السجون الألمانية تظل أدنى بكثير من نظيرتها الأميركية. ورغم صدمة بعض المسؤولين من مشاهد مثل وضع الحراس مفاتيحهم على الأرض أو تمكّن السجناء من فتح نوافذهم، فإنهم لم يستطيعوا إنكار فعالية هذا النموذج.
“نيويورك تايمز” نقلت عن تريشيا إيفرست، وزيرة الأمن العام في أوكلاهوما، قولها إن النظام القائم في الولايات المتحدة “غير مستدام”، مشددة على ضرورة تقليص اللجوء إلى السجن ليقتصر على من يشكلون خطرًا حقيقيًا، مع توسيع نطاق العلاج النفسي وبرامج التأهيل.
وأضافت الصحيفة أن الانفتاح الأميركي على السجون الأوروبية لا يقتصر على التجربة الألمانية، بل سبقتها تجارب مستوحاة من النمط الإسكندنافي، إذ أطلقت ولايات مثل كاليفورنيا وبنسلفانيا مشاريع تجريبية مثل “ليتل سكاندينافيا”، وهي وحدات تقوم على الثقة والانضباط الذاتي داخل المؤسسة السجنية.
ومع ذلك تبقى التحديات كبيرة أمام استنساخ هذه النماذج. فمن جهة، تواجه إدارات السجون الأميركية نقصًا حادًا في الأطقم وبُنى تحتية متهالكة. ومن جهة أخرى، تعيق الثقافة العقابية الصارمة أي تحول جوهري. وكما لاحظ التقرير فإن تحسين ظروف الاحتجاز لا يحظى بتأييد سياسي واسع، حتى في الولايات ذات الميول الإصلاحية.
وتشير “نيويورك تايمز” إلى أن فكرة تنظيم زيارات ميدانية لمسؤولي السجون الأميركيين تعود إلى أكثر من عقد، بمبادرة من المحامي والحقوقي دون سبيكتر، الذي خصص جزءًا من مكافآته القضائية لتمويل رحلات إلى ألمانيا والدول الإسكندنافية. وأسهمت هذه الجولات في إطلاق إصلاحات ملموسة في بعض الولايات، من أبرزها إنشاء وحدات تأهيلية للشباب تقوم على الحوار وتقاسم المسؤولية بين النزلاء.
لكن الصحيفة لفتت إلى أن صعوبة تبني النموذج الألماني لا تقتصر على الجانب الهيكلي أو المالي، بل تمتد إلى الفلسفة القانونية ذاتها. ففي حين تعتبر ألمانيا أن “الحرمان من الحرية هو العقوبة بحد ذاتها”، لا تزال الرؤية القانونية الأميركية تربط العقوبة بمزيد من القسوة والتجريد من الكرامة.
وترى الصحيفة أن التجربة الألمانية، رغم اختلاف السياقات، تظل مصدر إلهام محتمل، لكنها تطرح في الآن ذاته تساؤلات جوهرية حول مدى استعداد الولايات المتحدة لإعادة تعريف مفهوم العقوبة، ليس فقط في ممارستها، بل في بنيتها الفلسفية العميقة.