
الانهيار الداخلي والحصار الخارجي يقيدان “حركة النهضة” في تونس
نحو 150 من قيادات حركة النهضة التونسية إما ملاحقون قضائيا أو متواجدون خارج البلاد، فيما مكاتب الحزب مغلقة ونشاطه السياسي جدّ محدود… فقد تحوّلت حركة النهضة من عنوان بارز خلال “الربيع العربي”، قبل 14 سنة، إلى أفول على الساحة السياسية منذ أن قرّر الرئيس قيس سعيّد احتكار السلطات في 25 يوليوز 2021.
وبعد نحو سنة من إعلان سعيّد، نفّذت السلطات التونسية حملات توقيف طالت العشرات من القيادات السياسية والحقوقية، بمن فيهم رئيس الحركة راشد الغنوشي (84 عاما)، ولاحقتهم بتهم “التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي” و”تسفير الجهاديين إلى بؤر التوتر، وخصوصا سوريا” و”الفساد المالي”، وصدرت أحكام ثقيلة بالسجن لعشرات السنين.
تراجع موقع الغنوشي، رئيس البرلمان آنذاك، فجأة بعد سنوات من النضال السياسي، وبات ممنوعا من دخول البرلمان، ثم حكم عليه في 2023 بالسجن 22 عاما، ثم صدر حكم آخر بسجنه 14 عاما بتهمة التآمر على الدولة.
موت سريري
قال المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي لوكالة فرانس برس: “هناك من يعتقد بأن الحركة ماتت، لكن ذلك الاعتقاد غير صحيح”، وأضاف: “صحيح أنها ضعفت بشكل واضح إلى درجة الموت السريري في غياب قادتها، لكنها تبقى قادرة على الاستمرار؛ إذ لا تزال تعتبر الحزب الأكبر في مشهد حزبي شديد الضعف والتفكك”.
ويقتصر حضور الحركة حاليا على إصدار بيانات ومواقف سواء من الأحكام السجنية الثقيلة التي يصدرها القضاء التونسي في حق قياداتها، أو لانتقاد الأوضاع السياسية في البلاد.
ويرى عبد اللطيف الحناشي، أستاذ التاريخ المعاصر في الجامعات التونسية، أن “هناك صمتا مريبا اليوم لدى جميع الأطراف السياسية التي ساهمت في الانتقال الديمقراطي، ومن بينهم النهضة”.
وزاد في تصريح لفرانس برس: “هناك تراجع حاد للنهضة، ولكن هذا لا يعني أفولها … يبدو أنها تنحني للعاصفة في انتظار حدوث تحوّلات تسمح لها بالعودة”.
غير أن رياض الشعيبي، المستشار السياسي للغنوشي، أوضح لفرانس برس أن “هناك حالة من انكماش العمل السياسي تحت ضغط السلطة في البلاد، ما أدى إلى انكماش في حضور النهضة. ليست في موقع ضعف، وبمجرد انفتاح مجال الحرّية كما حدث في العام 2011 ستستعيد قوتها”.
هذا الجمود ينطبق على المشهد السياسي المعارض إجمالا في تونس، إذ فقدت الساحة السياسية الزخم الذي عرفته إثر الثورة وغابت التعبئة السياسية عن التظاهرات المعارضة، ولم تعد الأحزاب والمنظمات ناشطة كما في السابق.
واستدرك الشعيبي :”منذ انقلاب 25 يوليوز 2021 وطوال أربع سنوات ورغم الملاحقات والتضييق والسجن، مازالت الحركة (الحزب) الأكبر في البلاد”، وقد مرّ على تأسيسها 44 عاما.
وينتقد الشعيبي السلطة الحالية التي “توظّف أدوات الدولة لإقصاء خصومها السياسيين”.
ولعبت النهضة، بقيادة الغنوشي، دورا محوريا في سدة الحكم من العام 2011 إلى 2021. وشاركت بفعالية في القرارات السياسية البارزة، ووصلت إلى رئاسة البرلمان والحكومة في فترات مختلفة، بعد أن كانت الفائز الأكبر في انتخابات 2011.
غير أن شعبيتها وقاعدتها الانتخابية تراجعت من 1,5 مليون ناخب في 2011 إلى 560 ألفا في الانتخابات التشريعية في 2019. ويُعزى ذلك إلى فشلها في وضع حد لتدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي، فضلا عن انقسامات وخلافات داخلية بين القياديين وتهميش مسار العدالة الانتقالية.
وكتب المعارض الوزير السابق كمال الجندوبي، على حسابه في “فيسبوك”، أن الحكم الحالي “لم يعد يفرّق بين الإسلامي والعلماني، بين التقدمي والمحافظ. يريد إسكات كل من يفكر، وكل من يعارض، وكل من يرفض الركوع”.
ولم يسبق لسعيّد أن ذكر الحركة أو زعيمها بالاسم في أي من خطاباته وبياناته، لكنه يتحدّث عن “عشرية سوداء” في إشارة إلى السنوات التي حكمت النهضة خلالها، ويشدّد على “محاسبة كل من أجرم في حق البلاد”، وعلى أن “لا رجوع إلى الوراء”، مذكّرا بأنه لا يتدخل في القضاء وبأن الحريات مضمونة في الدستور الجديد الذي أقرّه إثر استفتاء في العام 2022.
ضرورة الحساب
تساهم اتهامات سعيّد للأحزاب السياسية التي كانت في الحكم في تنامي خطاب معاد لحركة النهضة التونسية.
وأكد منجي الرحوي، الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (يسار)، لفرانس برس، أن النهضة كانت المتحكم واللاعب الرئيسي في المشهد السياسي، ولكن “المسؤولية مشتركة” مع الأحزاب التي شاركتها الحكم، وقد تسبّبت كلها، في تقديره، “في تفقير الشعب والفساد المالي والسياسي والاغتيالات السياسية وقتل أمنيين وجنود والسماح لنشاط أنصار الشريعة الإرهابي وتسفير الجهاديين”.
لذلك، اعتبر الرحوي، النائب السابق المنتمي إلى حزب شكري بلعيد، القيادي الذي اغتيل علي يد مسلح في 2012، أن “من الطبيعي أن تلاحق قيادات النهضة ومن شاركها في الحكم، لأنهم قاموا بجرائم باستغلال نشاطهم السياسي”، لكنه يرفض في الوقت نفسه أن يتعرضوا “للظلم”.
وليست هذه المرة الأولى التي تمر فيها حركة النهضة بأزمة× فخلال حكم كل من الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي كانت في مقدمة صف المعارضة، وفي مواجهة محاولات لإقصائها، وتوزّعت قيادتها وجزء كبير من أعضائها بين السجن والمنفى، وحكم على الغنوشي بالمؤبد في أواخر عهد بورقيبة الذي طلب من القضاء إعدامه.
ويرى الجورشي أن انتقال الحزب من صف المعارضة إلى السلطة في 2011 كان “مغامرة غير مدروسة” كلّفه الكثير، وأن الحركة ارتكبت “أخطاء ولم تمارس نقدا ذاتيا”.