
“احتجاز صفية” يعري المزيد من الخروقات الحقوقية في مخيمات تندوف
أثار ملف الشابة الصحراوية “صفية”، التي فُقد أثرها منذ فبراير 2024 في مخيمات تندوف جنوب غرب الجزائر، جدلا واسعا في البرلمان الإسباني، بعدما وجهت النائبة الإسبانية من أصول صحراوية، تش سيدي، اتهامات مباشرة إلى جبهة البوليساريو والسلطات الجزائرية باحتجاز الشابة ومنعها من العودة إلى إسبانيا حيث تقيم منذ نحو عشرين عاما رفقة أسرة مضيفة بمنطقة إشبيلية.
وقالت النائبة الإسبانية، المنتمية إلى حزب “سومار” اليساري، إن صفية تواجه وضعا قانونيا غامضا، مشيرة إلى وجود أمر اعتقال غير واضح في حقها، وطالبت وزارة الداخلية الإسبانية بالتدخل العاجل لتأمين عودتها وضمان حقوقها، فيما ردت جبهة البوليساريو على هذه الاتهامات بنفي وجود أي قرار بالاعتقال، موردة أنها “تتابع الوضع بالتنسيق مع سلطات المخيمات”.
وتعيد هذه القضية إلى الواجهة ملفات مماثلة تعكس هشاشة الوضع القانوني والإنساني للأطفال الصحراويين الذين تم إرسالهم في سن مبكرة إلى إسبانيا تحت غطاء العلاج أو التمدرس، وبينما يستقر الغالبية منهم داخل أسر مضيفة، نشأت حالات من القطيعة مع الهوية الثقافية والدينية الأصلية، وسط غياب آليات واضحة للإشراف أو التتبع من طرف البوليساريو أو السلطات الجزائرية، بحسب ما تؤكده تقارير صادرة عن تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية.
ويحذر هذا التحالف من تعقيد أوضاع هؤلاء الأطفال والشباب عند عودتهم إلى مخيمات تندوف، لا سيما في ظل غياب ضمانات قانونية لحقوقهم الأساسية، وفي مقدمتها حرية التنقل، كما يحمّل التحالف الدولة الجزائرية، بصفتها البلد المضيف، مسؤولية قانونية بموجب التزاماتها الدولية، خاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي ينص في مادته 12 على الحق في حرية اختيار محل الإقامة والتنقل دون قيود.
وتؤكد منظمات حقوق الإنسان الصحراوية أن صفية ليست حالة معزولة، بل تعكس نمطا ممنهجا من الانتهاكات، خصوصا في حق النساء، اللائي يجدن أنفسهن عرضة للتضييق النفسي والجسدي، وصولا إلى التهديد بالقتل، في حال رفض الخضوع لإرادة الأسرة أو سلطة المخيم.
معاناة إنسانية
يرى عبد الوهاب الكاين، رئيس منظمة “أفريكاووتش”، أن الأطفال الصحراويين المولودين بمخيمات تندوف جنوب غربي الجزائر يتعرضون لانتهاكات جسيمة تمنعهم من التمتع بحقوق الإنسان كما هو الشأن في باقي المخيمات المخصصة للاجئين في مناطق النزاعات والنزوح، مرجحا أن يرجع ذلك أساسا إلى الرفض المستمر من السلطات الجزائرية، باعتبارها الطرف المضيف، السماح بإجراء إحصاء أممي يحدد الوضع القانوني لهؤلاء الأشخاص ويُمكّن من معرفة مناطق سكناهم الاعتيادية ومنحهم مركزا قانونيا يقيهم بطش عناصر تنظيم البوليساريو وأجهزة الأمن الجزائرية المختلفة.
وأضاف نائب منسقة تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية، في تصريح لجريدة جريدة النهار الإلكترونية، أن فضيحة جديدة انفجرت مؤخرامن داخل البرلمان الإسباني، تتعلق باحتجاز شابة صحراوية تدعى صفية، تبلغ من العمر 28 سنة، بمخيمات تندوف، وحرمانها من العودة إلى الديار الإسبانية حيث عاشت قرابة عشرين سنة في كنف عائلة مضيفة بمنطقة “دوس إيرماناس” قرب مدينة إشبيلية بالأندلس، لافتا إلى أن “صفية كانت قد انتقلت إلى المخيمات في فبراير 2024 لزيارة أسرتها البيولوجية، غير أنها لم تكن تتوقع أن تتحول زيارتها إلى احتجاز قسري، خصوصا وأنها كانت تظن أن عائلتها هي من قررت في السابق إيداعها لدى الأسرة الإسبانية وهي في الثامنة من عمرها”.
وأوضح الكاين أن هذه الحالة تعكس فشلا واضحا في آليات الإشراف التي تزعم جبهة البوليساريو أنها تضمنها، حيث نشأت صفية في نمط حياة غربي، دون توفر أي فضاء ثقافي أو ديني حاضن يساعدها على الحفاظ على هويتها، ما جعلها تتنكر لروابطها الثقافية والدموية، في ظل غياب تام لأي متابعة تربوية أو دينية، مؤكدا أن “ما أقدمت عليه البوليساريو من إرسال الأطفال الصحراويين إلى عائلات إسبانية بمبررات العلاج أو التعليم، يُعد في جوهره جريمة في حق هؤلاء القاصرين، لما لها من تبعات تمس بالهوية والانتماء والانفصال عن المحيط الأصلي”.
وأبرز المتحدث أن العائلات البيولوجية، رغم نيتها الحسنة في ضمان علاج أو تعليم أفضل لأبنائها، وقعت ضحية عملية احتيالية ممنهجة من قبل تمثيليات البوليساريو وجمعيات الدعم الإسباني، مشيرا إلى أن “التقارير الموثقة من قبل التحالف توضح أن هؤلاء الأطفال لا يتلقون تكوينا في اللغة العربية ولا في الدين الإسلامي، ولا تتم متابعتهم من حيث ظروف العيش أو مدى اندماجهم، بل يتم استغلالهم من قبل بعض الجهات الإسبانية مقابل إكراميات ونهب ممنهج للمساعدات الموجهة إليهم، وسط تواطؤ واضح في حالة مطالبة الأسر الصحراوية الأصلية باسترجاع أبنائها”.
وكشف الكاين أن التحالف يتوفر على أحكام قضائية صادرة عن محاكم إسبانية تؤكد حق العائلات الصحراوية في استعادة حضانة أبنائها، رغم أن أغلب هذه القضايا انتهت لصالح الطرف الإسباني، قبل أن تتم مراجعتها لاحقا من قبل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي أعادت الاعتبار لحقوق العائلات الأصلية.
أشار الفاعل الحقوق ذاته إلى أن مسؤولية تهجير الأطفال الصحراويين في سن مبكرة والمتاجرة بمصائرهم ثابتة في حق كل من الدولة الجزائرية وجبهة البوليساريو، وبتواطؤ مع بعض جمعيات الدعم الإسباني، معتبرا أن “احتجاز شابات راشدات، بعد أن تم السماح لهن بالعيش في كنف عائلات أوروبية، هو انتهاك سافر لمقتضيات القانون الدولي لحقوق الإنسان، خصوصا المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تضمن لكل شخص بالغ حرية التنقل واختيار مكان الإقامة”.
وشدد رئيس منظمة “أفريكاووتش” على أن الأمر يزداد خطورة حين يتعلق باحتجاز نساء راشدات، موضحا أن “لا أحد، سواء من السلطات الجزائرية أو من البوليساريو أو حتى من أفراد عائلاتهن، يملك الحق في مصادرة حرية تنقلهن أو تقرير مكان إقامتهن، وأن إخضاع الشابة صفية لقرارات أطراف أخرى هو خرق صريح للحقوق المدنية المنصوص عليها في القانون الدولي”.
وأنهى الكاين تصريحه بالتأكيد على أن الحكومة الجزائرية تخرق التزاماتها الدولية بموجب توقيعها على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، سواء من خلال عجزها عن ضمان حرية التنقل للشابة صفية، أو بفشلها في إتاحة وسائل الانتصاف القانونية لها، مما يتركها عرضة للاختطاف أو إعادة الاحتجاز دون أي حماية وطنية أو دولية تذكر.
احتجاز مرفوض
أكدت مينة لغزال، منسقة تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية، أن التحالف يتابع عن كثب قضية احتجاز الشابة الصحراوية صفية، وما خلفته من ردود أفعال محلية ودولية، مشيدة بطرح قضيتها في البرلمان الإسباني، وتقديم شكاية رسمية من طرف أربع نائبات برلمانيات، هن :إستر جيل، وتسلم سيدي، وألدا ريكاس، وماريا ديل مار غونزاليس.
وأضافت لغزال، في تصريح لجريدة النهار، أن هذه المبادرة إيجابية ومهمة؛ إذ من شأنها أن تفتح الباب أمام البوح بما تتعرض له النساء الصحراويات من انتهاكات داخل المخيمات، في ظل صمت مريب من السلطات الجزائرية، بوصفها الدولة الحاضنة، ومن جبهة البوليساريو، الجهة المشرفة فعليا على هذه الانتهاكات، مؤكدة أن “سجلات التنظيم مليئة بحالات احتجاز لفتيات ونساء صحراويات قدمن من شبه الجزيرة الإيبيرية لزيارة أسرهن بالمخيمات، رغم أنهن يحملن تراخيص للعيش في إسبانيا منذ سن مبكرة، ويفتقرن إلى أي حماية من الانسلاخ الهوياتي والقيمي الذي يتهددهن في بيئة إقامتهن الاعتيادية هناك”.
وشددت الناشطة الحقوقية على أن تخوف أمهات الشابات المحتجزات له ما يبرره، نظرا لجهلهن بما قد تتعرض له بناتهن في طفولتهن، إضافة إلى الخوف من قمع عناصر أمن البوليساريو أثناء إعداد لوائح الأطفال المقرر إرسالهم إلى إسبانيا أو أماكن أخرى في إطار برنامج “عطل من أجل السلام”، مشيرة إلى أن “هؤلاء الأطفال يُوزّعون على العائلات الحاضنة وفقا لشروط وظروف لا يعلمها إلا مسؤولو البوليساريو وجمعيات الدعم الإسبانية، دون علم أو موافقة الأسر البيولوجية، وفي ظل غياب تام لأي رقابة من السلطات الجزائرية، المسؤولة قانونيا عن الأطفال الصحراويين المقيمين على أراضيها، من حيث تتبع نشأتهم ودراستهم وتطورهم”، مبرزة أن “العائلات تفاجأ في كثير من الأحيان بالتغير الكبير في سلوك بناتها بعد عودتهن، من حيث درجة التحرر وتخليهن عن القيم التي تحكم نمط العيش في المجتمع الصحراوي المحافظ”.
وتابعت قائلة: “وفي محاولة متأخرة، تسعى هذه العائلات لاستدراج بناتها إلى المخيمات لإجبارهن على البقاء هناك، في محاولة لإعادة تأهيلهن ثقافيا، غير أن ذلك – في رأي التحالف – إجراء غير مجدٍ، لأن ما اكتسبته هؤلاء الفتيات من قناعات في سن مبكرة حول أفضلية الثقافة الغربية يصعب تغييره، وأي محاولة لإجبارهن على التكيّف مع واقع المخيمات ستكون فاشلة، بل قد تؤدي إلى نتائج عكسية، أبرزها نفور الضحايا من عائلاتهن البيولوجية، وكشف الوجه القمعي لكل من البوليساريو والسلطات الجزائرية، خصوصا في ما يتعلق باحترام الكرامة الإنسانية والالتزامات الدولية بموجب الاتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان”.
وانتقدت لغزال عجز الدولة الجزائرية، الحاضنة للمخيمات، عن تمكين الصحراويين من الولوج إلى القضاء الوطني، ودفعهم بدلا من ذلك إلى “التفاهم” مع البوليساريو في السر، وهو ما اعتبرته تفويضا غير شرعي لوظائف قضائية وقانونية لتنظيم قمعي غير دولتي لا يعير أي اهتمام لحقوق الإنسان.
وفي هذا السياق، نبهت إلى أن الشابة صفية، البالغة سن الرشد القانوني، لها الحق الكامل في مغادرة الجزائر بموجب المادة 12، الفقرة 2، من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، مضيفة أن “التحالف يستغرب بشدة كيفية إخفاء وثائق سفرها ومنعها من استخدامها، رغم حيازتها لجواز سفر خاص بعديمي الجنسية، وبطاقة إقامة إسبانية سارية، ورفضت أن يكون أصلها الصحراوي مبررا لاحتجازها، سواء داخل المخيمات أو فوق التراب الجزائري، رغم حصولها على تصريح مرور صادر عن القنصلية الإسبانية في كل من ماي 2024 وفبراير 2025، لكنها لم تتمكن من اجتياز الحدود بسبب رفض ممثلي البوليساريو بالجزائر إصدار أمر بالمغادرة، رغم أنه ليس شرطا لدخول الأراضي الإسبانية”.
وطالبت لغزال، باسم تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية، الآليات الأممية بالتدخل العاجل للإفراج عن الشابة صفية، ومساعدتها في اتخاذ قرارها الحر إما بالبقاء مع أسرتها أو العودة إلى عملها وحياتها الطبيعية في إسبانيا، كما دعت المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان إلى تحميل كل من البوليساريو والجزائر مسؤولية الوضع المعقّد الذي تعيشه صفية، لا سيما أن قرار إلغاء تصريح سفرها يُعد انتهاكا صارخا، رغم بلوغها السن القانوني.
وتقول لغزال، ضمن تصريحها لجريدة النهار، أن تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية تواصل مع مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في الجزائر لإبلاغه بخطورة وضع صفية، غير أن فرص تدخل المفوضية تبقى ضعيفة، نظرا لعدم سماح السلطات الجزائرية لها بمعالجة أوضاع الصحراويين المحتجزين، خصوصا عندما تتعارض مع مصالح البوليساريو أو تنتقد الأوضاع في المخيمات. ولفتت إلى أن احتجاز صفية لأكثر من 19 شهرا دليل كاف على محدودية دور المفوضية وعجزها عن حماية من يفترض أنهم لاجئون.
وأضافت أن صفية، رغم فرارها إلى وجهة سرية داخل الجزائر، لا تزال عاجزة عن مغادرة البلاد، بسبب تواطؤ السلطات الجزائرية مع جبهة البوليساريو، التي تسعى لإرضاء أسرتها وحفظ ماء الوجه أمام آلاف المحتجزين الساخطين على أوضاعهم، كما ذكّرت بأن السلطات الجزائرية أبلغت صفية بضرورة التواصل مع البوليساريو، رافضة التوسط أو التدخل، بزعم أن الأمر “شأن داخلي صحراوي”، رغم أن المخيمات تقع على التراب الجزائري.
وأعربت المتحدثة عن أملها أن يشكّل تحرك المجتمع المدني المدافع عن حق صفية في حرية التنقل والإقامة نقلة نوعية في التوعية بأوضاع الصحراويين داخل مخيمات تندوف، والدفع نحو رصد وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة ببرنامج “عطل من أجل السلام”، والمطالبة بالتحقيق في الجرائم التي طالت الأطفال المستفيدين من البرنامج، أو أولئك الذين تم احتجازهم بالمخيمات بعد بلوغهم سن الرشد خلافا لرغبتهم في المغادرة. كما دعت إلى ترتيب الجزاءات على كل من يخرق القانون، سواء كانوا جزائريين أو صحراويين أو إسبان، والعمل على إنهاء البرنامج بشكل نهائي نظرا لآثاره السلبية على استقرار الأسر ولمّ شملها وضمان نمو الأطفال في بيئة اجتماعية وثقافية طبيعية، بدلا من معاناتهم من الاغتراب والانسلاخ الهوياتي.
واختتمت لغزال تصريحها بالتنويه بترافع حزب سومار الإسباني عن حق الشابة صفية في حرية التنقل واختيار مكان إقامتها، معتبرة أن ذلك يمثل خطوة مهمة في تسليط الضوء على ما تتعرض له النساء الصحراويات من احتجاز وتنكيل داخل المخيمات، كما طالبت الحزب الإسباني بالمزيد من الانفتاح والتحقيق في الانتهاكات، خاصة جرائم القتل خارج نطاق القانون، حيث سجّل تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية 21 حالة قتل موثقة منذ سنة 2014، قبل أن تعرب عن تطلعها إلى تعاون الحزب في كشف هذه الجرائم وحماية الضحايا من القتل والاختفاء القسري والتعذيب، الذي يتم في ظروف غامضة وخارج نطاق أي رقابة دولية أو وطنية جزائرية.