
من بيوت العبادة إلى معاقل الألم .. قراءة في استهداف كنيسة “مار إلياس”
إلى زيد العسّاف ومحمد سامر القوّاص، الدمشقيَّين كما يجب أن يكون الدمشقيّون: يحملان في صمتهما عبق الياسمين، وفي صداقتهما حنين زقاق لا يزال يروي الحكايات. إليكما، لأن بعض المدن تسكنُ في القُلوب بفضل من يُشْبهونَها.
تفجيرُ كنيسة.. جرحٌ في صدر الوطن
في مساء الأحد 22 يونيو 2025، دوّى الانفجار في كنيسة “مار إلياس” بحيّ دويلعة الدمشقي، فحوّل لحظة القُدّاس إلى مشهد من الدّم والحُطام. لم يكن التفجير جريمة ضد جماعة مصلّين فحسب، كان اعتداءً على أحد أعمق تمثلات الطمأنينة في المخيال السّوري: أن يظل بيت الله، مهما احتدمت السياسة والحرب، حرَمًا لا يُمسّ. سقطت الأجساد، وتهشّمت الجدران، لكن ما انكسر حقًا هو ذاك الإيمان الجماعي بأن للرّوح أماكن عصيّة على العُنف، لا تطالها يدُ الخراب.
لقد كشف الهجوم الانتحاري عن تحوّل نوعي في منطق الاسْتهداف: لم يعد الهدف فرض السّيطرة، بل الإلغاء التام ومحْوُ الوجود؛ فالفاعل مجهول/معروف، صامت/صاخب، يضرب ليترك أثرًا مفتوحًا على التأويل والرّعب معا. لا ينمّ هذا الغموض عن ضعف أمنيّ بقدر ما يدلّ على انهيار المعجم السياسي ذاته، الذي طالما ارتبط بالفعل المعلن، والادّعاء الموجّه. أما اليوم، فالعُنف ينفلت من كل منطق، والتفجير بلا سردية تُبرّره؛ كأن السياسة قد تخلّت عن لغتها، وتركت المكان شاغرًا أمام عبثٍ خالص لا يقول شيئًا سوى صمته.
يمكن قراءة استهداف كنيسة تَتْبع طائفة الرّوم الأرثوذكس في قلب دمشق بعيدا عن إطاره الطائفي أو الديني، قريبا من سُؤال أوْسع: ماذا يعني أن تتفجّر أماكن العبادة في مدن عُرفت تاريخيًا بتعدّدها؟ إن تفجير “مار إلياس” هو قوسٌ يُفتح على مستقبل ثقافي واجتماعي مهدّد، تُصاب فيه الذاكرة بالمحْو وبالارتياب. لا يتعلّق الأمر بكنيسَة ضُربت، وإنما بالمدينة التي تحتضنها والتي، في كل مرّة تُصاب فيها قبابها ومآذنها، تفقدُ جزءًا من خريطة الرّوح التي ظلّت تحفظها عبر القرون.
ليست كنيسة “مار إلياس” في دمشق مبنى بسيطا للعبادة، إنها تجسيدٌ لطبقات التاريخ الروحي والثقافي التي تتراكب فوق بعضها في قلب الشام، المدينة التي كانت دومًا مرآة للتنوع وأرشيفًا مفتوحًا لذاكرة الشرق.
من موقعها المتواضع نسبيًا في حيّ باب شرقي، استطاعت هذه الكنيسة أن تكتسب مكانة تتجاوز بنيانها الحجري لتصبح رمزًا للعيش المشترك ومعلَمًا من معالم الموروث المسيحي السوري. فـ”مار”، وهي لفظة سريانية تُقابل “القديس” أو “السيّد”، لا تقتصر وظيفتها على التبجيل، ذلك أنها تُضفي على الاسم طابعًا يعيد وصل الحاضر بجذور لاهوتية موغلة في ذاكرة الكنيسة السريانية والبيزنطية. أما “إلياس”، فهو الاسم الذي يُستعاد من صفحات العهد القديم بوصفه نبيًّا غيورًا لله، واجه صراعا وجوديا مع الوثنية والفساد، ليعود ويظهر في العهد الجديد عند التّجلي، شاهداً على استمرارية الوحي بين العهدين. وحين يُطلق هذا الاسم على كنيسة، فإنه يمنحها وظيفة رمزية: أن تكون ملاذًا للرؤية النبوية في زمن العتمة، ومسكنًا لروحية المجابهة بالصلاة والصمت، لا بالسَّيْف والنار.
تبدو الكنيسة من النّاحية المعمارية بسيطة المظهر؛ فقد بنيت وفق النمط البازيليكي الشرقي، تعلوها قبة صغيرة، وتُزيّن جدرانها الداخلية أيقونات تقليدية رُسمت على يد فنّانين دمشقيين، متأثرين بالأسلوب البيزنطي لكن بلوْن محلي يشي بانفتاح الشام على الأرثوذكسية الروسية من جهة، وعلى الفن القبطـي من جهة أخرى.
حين احْتضنَني الحجرُ… وأصْغَى إليَّ البُخور
زُرْتُ الكنيسة ذات ربيع من سنواتٍ خلتْ على هامش لقاء ثَقافي، كان الوقت مساءً، وكانت أصوات المآذن تختلط بأجراس الكنائس في مشهدٍ سوريالي لا يعرفه إلا من عاش دمشق بكل تردداتها. جلست داخل الكنيسة لدقائق بدت طويلة، أتأمل صمت الجدران، وتعرجات الزخارف، ورائحة البخور التي ما تزال تسبح في المكان. لم تكن الصلاة قائمة، لكن كان ثمة صدى لصلواتٍ سابقة، كأن الجدران تحفظها وتردّدها بصمت.
في تلك الزيارة، رأيتُ امرأة مسنّة تجلس قرب مدخل الكنيسة وتتمتم بصوت منخفض. لم أسمع كلماتها، بدت لي من هَمْسها أنها كانت تستنجد بإلياس النبي، الذي تحوّل في الوجدان الشعبي السوري إلى شفيعٍ للضائعين والمقهورين. كانت امرأة تصلي، وبصلاتها تختصر قصةً كاملة من الخوف والإيمان والرّجاء.
لم يكن التفجير الذي طال الكنيسة مجرد خبر عابر في شريط الأحداث. بدا لي الحدث وكأنه اعتداء على فكرة العيش المشترك ذاتها؛ فكنيسة “مار إلياس” كانت دومًا من الفضاءات التي حافظت على سكينة روحية وسط عواصف العُنف المتكررة، كما حكَى لي أحد أصدقائي السّوريين حين كلمته بالهاتف للاطمئنان عليه بُعَيْدَ الحادث.
والمؤكد أن هذا التفجير، أياً كانت دوافعه الظاهرة، سواء اتخذ لبوسًا سياسيًا أو انتحل خلفية مذهبية، يتجاوز حدود العنف المباشر، ليطال جوهر الرمزية التاريخية نفسها. وما يجعل الجرح أكثر إيلامًا أن كنيسة “مار إلياس” لم تكن من تلك المعالم الدينية الكبرى التي تُحيط بها هالة الشهرة أو الزخم الإعلامي، بل كانت من الكنائس الصامتة، التي يؤمّها الناس الْتماسًا لسكينة داخلية، واحتضانًا روحيًا يندر أن يُعاش خارج جدرانها.
ليس من اليسير ترميم الكنائس حين تمتد إليها يد الخراب، لأن الترميم لا يعيد الحجارة إلى مواضعها فحسب، وإنما يحاول عبثًا لملمة ما تهدّم في الروح. فالمكان المقدّس حين يُصاب، تُصاب معه طبقات دقيقة من الإيمان والرجاء والانتماء. كل حجر مكسور في الكنيسة هو شظية من المتخيّل الجماعي السوري، تنغرس في الوجدان، مسيحيًا كان أم مسلمًا، لأن الألم حين يلامس المقدّس، يتجاوز الطائفة ويصيبُ الوطن.
في لحظة مثل هذه، يصبح من الضروري أن نُعيد الاعتبار لذاكرة الكنيسة بصفتها مكانًا دينيًا وموقعا ثقافيا، وحضاريا، وروحيا. فكل تفجير كهذا يُنذرُ بما هو أبْعَد: يُنذر بإعادة رسم الخرائط الرّمزية للمدينة، وإحلال الخوف مكان الأُلفة.
وما يزيد من فداحة هذا الاستهداف أن كنيسة “مار إلياس” تفتقر إلى تلك الحصانة الرمزية أو الزخم الإعلامي الذي تحوزه بعض المعالم الدينية الكبرى. ليست هذه الكنيسة من تلك المعالم التي تفرض حضورها في الواجهة، فهي تنتمي إلى هامش روحي خافت، صامت لكنه أصيل، ظلّ يتنفس بهدوء في نسيج المدينة. ولهذا، فإن استهدافها يجرح ذاكرة يومية احتضنتها مقامات لم تزعج أحدًا، وظلتْ وفية لوظيفتها الروحية، ثابتة وسط زمن يميل إلى التلاشي.
من الناحية اللاهوتية، لا غرابة أن يُعدّ النبي إلياس رمزًا للاحتجاج الإيماني، والوقوف في وجه الفساد والوثنية. فقد اقترن وجوده بمواقف من المجابهة، لا من الخضوع. لهذا، فإن تفجير الكنيسة التي تحمل اسمه، يحمل في طياته مفارقة مريرة: استهداف ملاذٍ كان يرمز للمقاومة الروحية بالصبر لا بالسلاح.
حين تنفجر الذاكرة.. رثاء روحي “لمار إلياس”
كانت كنيسة “مار إلياس” بيتًا للسكينة، يقصده من أثقلته الحياة طلبًا للطمأنينة. شُيّدتْ جدرانها لتحتضن صلاة خافتة، ودموعًا صامتة، وهمسًا يتطلع إلى السلام. كانت تقوم بدورها البسيط والعظيم معًا: أن تفتح أبوابها لمن يريد أن يخاطب الله، لا أن يُقاتل باسمه.
في لحظات كهذه، تتحول الأيقونات المحترقة إلى مرآة تُظهر ما هو أعمق من الخراب المادي: توازن هشّ فقدناه بين الذاكرة والعيش، بين الإيمان والمواطنة. لم تعد الصور المقدسة مجرّد رموز دينية، وإنما أضحتْ نداءً صامتًا إلى العقل والضمير. إنها تطرح على السوريين أسئلة مؤلمة: كيف نصوغ مستقبلًا لمدينتنا لا يتهاوى فيه الروحي أمام العنف ولا يُختزل فيه الثقافي إلى أطلال؟ أيّ مستقبل لدمشق إذا كانت أمكنتها الرمزية تتهاوى أو تتحوّل إلى أطلال صامتة؟ كيف يمكن ترميم الثقة إذا لم تنصت الذاكرة الجمعية إلى هذه الأحداث باعتبارها جراحًا تستدعي التأمل والمعالجة، لا مجرد النسيان أو التجاوز؟
فعلُ التذكر هنا فعل مقاومة؛ مقاومة لثقافة النسيان السائدة، ولخطاب “الروتين الإخباري” الذي يتعامل مع كل تفجير كما لو أنه حادثة عرضية. قد يعيد النحاتون بناء القباب، وقد تُرمّم الأيقونات، لكن ما لن يُرمم بسهولة هو الطمأنينة التي سكنت ذلك المكان، ودفءُ الاعتقاد البسيط الذي كان يمنحُ للمصلين شعورًا بأن المدينة، رغم قسوتها، لا تزال تحتفظ بمساحات للسكينة.
من هذا المنطلق، يُختزل الأمل في تلك اللحظات الحاسمة فيما هو أسْمى وأصدق: في ترميم النسيج الإنساني الذي تفكّك بين أبناء المدينة، وإحياء الثقة التي انكسرت بين الطوائف، وإعادة بناء علاقة عضوية متجددة بين المدينة وسُكانها، على أساس الانتماء المشترك للمصير والذاكرة والروح.
هكذا، أصبحت كنيسة “مار إلياس” بعد التفجير علامة بارزة في ذاكرة المدينة، تجسد هشاشة المقدّس في زمن تتآكل فيه الحصانات الرمزية. إنها تصدع المكان الذي كان يُعتقد أنه ملاذ آمن، خارج دائرة النزاع والحسابات، لتتحول إلى نص مفتوح على الأسى العميق، وعلى نبوة مصلوبة في حاضر يملؤه الألم، وعلى صمت يفوق في بلاغته كل ضجيج إعلامي.
لقد غدت الكنيسة حضورًا مُشرئبًّا من تحت الركام، شهادةً حارّة على ما لا يزال ممكنًا: أن يظل المكان قادرًا على التذكير بأن الإيمان لا يسكن في القباب وإنما في الأثر، وأن الرمزية الكبرى لا تصنعها الحشود، بقدر ما تؤثثها التفاصيل التي يحتفظ بها التاريخ بهدوء: شمعة بقيت مشتعلة وسط الدخان، أو مقعد خشبيّ لم يغادره الصدى الأخير لصلاة انقطعت فجأة.
إن إعادة فتح الكنيسة بعد التفجير سيكون فعلاً من أفعال الحياة، لكنه لن يكتمل إن لم يُرافقه ترميمٌ للوجدان العام، وللثقة المهدورة.
في لحظة الصمت تلك، حين يعود المصلّون إلى كنيسة “مار إلياس” بخطى مترددة، ويُشعلون شمعة صغيرة في ركن متواضع بين الجدران المتصدعة، فإنهم يستأنفون طقسًا دينياً، لعلهم بذلك يعيدون للمدينة نبضًا دفينًا، ويكتبون سطرًا جديدًا لتاريخ دمشق: سطرًا يُقرأ بالدمع، مهما تناثر الحجر وتبدّد الصوت. إنهم، في فعلهم الصغير ذاك، يوقظون المدينة من سباتها الجريح، ويعيدون إلى الذاكرة التائهة نقطة ضوء لن يكون بمستطاع العنف إخمادها.
لعل محمد الماغوط هو الذي قال ذات يوم: “الكنيسة ذاكرة حية لا نسكن إلا في صمتها”. تكتسب هذه الكلمات معنى أشد وقعًا حين نقرنها بكنيسة “مار إلياس” بوصفها رمزًا لصراع أعمق بين الإيمان والحقد، بين الذاكرة التي تتشبّث بالحياة وبين العنف الذي يحاول أن يُفنيها. الكنيسة جسدٌ يئن في صمت، وشاهدٌ يتلو صلواته على أطلال السلام المهدّد. في هذا التصدّع يكمن النداء الحقيقي: كيف تستعيد المدينة ضميرها حين يُفجّر معْبدُها؟ وكيف يواصل الإيمان دربه في وجه الانكسار؟ وماذا يعني أن تعود الصلاة إلى مكان جُرِّد من أمانه؟ أيّ إيمان هذا الذي ينهض من تحت الأنقاض ويواصل إنشاد السلام في وجه من اعتاد لغة الحديد والنار؟ وهل تعود المدينة كما كانت أم إن كل شمعة توقد الآن تحمل في لُبّها مرارة الشك؟ وهل تكفي رغبة الجماعة في الحياة لتكذّب منطق الخراب؟
لا أكتب اليوم عن كنيسة فحسب، وإنما عن فكرة الخلاص حين تتحول إلى هدف يُستباح، وعن إيمانٍ يختار أن ينهض جريحًا يمشي بين الركام، ويتساءل بمرارة: هل يمكن للمدينة أن تظل حاضنة للخلاص وسط عواصف الخراب والشتات؟
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.