بينما يسود هدوء حذر على جبهات التماس بعد جولة من الحرب الإيرانية الإسرائيلية، التي دامت 12 يوما، تتصاعد تساؤلات حادة حول ما إذا كانت القضية الفلسطينية لا تزال تحتل موقعها المركزي في خرائط الصراع الإقليمي أم أضحت تُستحضر فقط كشعار رمزي عند الحاجة. فوسط تزايد الاصطفافات الجيو-سياسية، تبدو فلسطين وكأنها تُزاح بهدوء من قلب المعادلات الكبرى لتُحوَّل إلى مجرّد خلفية خطابية في نزاعات تتجاوزها.
في هذا السياق، يرى مهتمون بالشأن الفلسطيني أن مثل هذه التوترات، رغم كثافتها الإعلامية، لا تُعيد الاعتبار للقضية، بل تكرّس تهميشها. فإسرائيل، حتى في ذروة صراعها مع إيران، تواصل مشاريعها الاستيطانية، مستغلة التشتت الإقليمي والدولي. أما إيران، وإن تبنّت خطاب “نصرة القدس”، فإن تحركاتها – حسب المتابعين – تنطلق من منطق الحسابات الاستراتيجية، لا من التزام مبدئي تجاه الشعب الفلسطيني، ما يجعل الدعم المعلن مجرّد ورقة ضغط عابرة.
ومع الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار بين طهران وتل أبيب، يُحذّر الفاعلون والمتابعون من أن يتحوّل هذا الهدوء النسبي إلى حالة جمود سياسي تُكرّس تهميش فلسطين. فبدل أن يُستثمر هذا الظرف الدبلوماسي لفتح آفاق جديدة أمام الحقوق الفلسطينية، ثمة مخاوف من أن يعاد إنتاج سيناريوهات التهدئة المؤقتة التي تقصي الفلسطيني من طاولات القرار وتُبقيه رهينة توازنات لا يملك زمامها.
ومن غير المقبول، وفق هؤلاء المتابعين، أن تدار الملفات الكبرى في المنطقة بعيدًا عن أي حضور فعلي للفلسطينيين، أو أن يُختزل نضالهم في شعارات ظرفية سرعان ما تتلاشى عند أول تسوية بين القوى المتصارعة. من هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة توجيه بوصلة الصراع، وتثبيت القضية الفلسطينية كجوهر لا كعرض، وكأولوية لا كرافعة لأجندات الغير.
“هامش القرار”
المحلل السياسي الفلسطيني إيهاب جبارين أبرز أن أحد المظاهر الأكثر إرباكًا في أعقاب التصعيد الإيراني الإسرائيلي الأخير، هو استمرار تغييب الفاعل الفلسطيني عن معادلات الردع والتفاوض في الإقليم. فعلى الرغم من أن الساحة الفلسطينية، ولا سيما قطاع غزة، تظل دائمًا ضمن نطاق التأثر المباشر، إلا أنها تبقى خارج نطاق القرار السياسي الفعلي، سواء في لحظات التصعيد أو خلال التفاهمات التي تعقبها.
ويرى جبارين أن هذا الواقع يعكس خللًا بنيويًا في المقاربة الإقليمية للقضية الفلسطينية، حيث يُعاد تموقعها كل مرة كورقة ضغط أو كرمزية نضالية، لا كقضية سيادية تستدعي حضورًا سياسيًا مستقلًا في أي ترتيبات أمنية أو سياسية. وفي هذا السياق، يؤكد أن استعادة الفلسطينيين موقعهم السياسي يتطلب أولًا تفكيك الارتباط الشرطي ببعض المحاور الإقليمية، وثانيًا، بلورة استراتيجية فلسطينية وطنية تعيد فرض الذات الفلسطينية كفاعل لا كملف يُدار بالوكالة.
وأضاف جبارين، ضمن تصريح لجريدة جريدة النهار الإلكترونية، أن تداعيات التصعيد تجاوزت طابعها الثنائي؛ إذ رسمت معالم إعادة تموقع سياسي في المنطقة، حيث بدت بعض الدول العربية حريصة على لعب دور الوسيط، فيما انحازت أخرى بصورة محتشمة إلى أحد الطرفين. واعتبر أن هذا التباين في المواقف يحدّ من إمكانية تشكّل جبهة عربية متماسكة تجاه القضية الفلسطينية، ويُعمّق عزلتها عن دوائر القرار الفاعل، بالرغم من استمرار التذكير بها في الخطابات الإعلامية الرسمية التي تفتقر غالبًا إلى الفعل السياسي الملموس.
وأشار المتحدث ذاته إلى أن الفلسطينيين، سواء في الضفة أو غزة، يعيشون حالة من الإرباك السياسي جراء هذا التبدّل في موازين القوى؛ إذ لم يتضح بعد ما إذا كان التصعيد الأخير سيُترجم إلى دعم فعلي لقضيتهم أم سيُوظف فقط في سياق التفاوض بين طهران وتل أبيب على ساحات أخرى. ولفت إلى أن بعض الفصائل الفلسطينية وجدت نفسها أمام معادلة معقّدة: إما الاستمرار في تحالفاتها التقليدية رغم تراجع مكاسبها، أو إعادة تموضعها بما يراعي الدينامية الجديدة في الإقليم، وهو ما يُنتظر أن تُظهره الأسابيع القادمة.
“خطاب مزيف”
قال الصحافي الفلسطيني محمود حريبات، رئيس مجلة “لمّة صحافة”، إن التغطية الإعلامية للتصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل كشفت عن انسياق واضح لمعظم القنوات وراء السرديات العسكرية للأطراف المتصارعة، دون الالتفات الجاد إلى الكلفة الإنسانية والسياسية التي تكبدها الفلسطينيون.
واعتبر حريبات أن الإعلام العربي، في معظمه، فشل في تموضع القضية الفلسطينية داخل هذا الصراع الإقليمي؛ إذ تعامل معها كحاشية ظرفية لا كمكون استراتيجي، ما يُفقد النقاش العمق المطلوب لفهم مآل المرحلة المقبلة.
وأضاف الصحافي الفلسطيني، ضمن تصريح لجريدة جريدة النهار الإلكترونية، أن الدبلوماسية الإعلامية التي انتهجتها طهران وتل أبيب خلال التصعيد الأخير ركزت على إدارة الانطباعات أكثر من تقديم الحقائق؛ فبينما سعت إسرائيل إلى الظهور بمظهر الطرف المسيطر رغم الخسائر، حاول الإعلام الإيراني تصوير المواجهة كفتح استراتيجي رغم التهديدات المتبادلة.
واعتبر أن هذا النوع من المعالجة يُربك الرأي العام العربي، ويُعمّق من حالة الانقسام حول طبيعة الصراع، خاصة في ظل غياب خطاب فلسطيني جامع قادر على كسر احتكار السرديات الإقليمية.
وأشار حريبات إلى أن التأثير الإعلامي لهذا التصعيد لم ينعكس على تعبئة حقيقية لصالح القضية الفلسطينية، بل على العكس، أفرز حالة من الاستقطاب الحاد داخل المجتمعات العربية، حيث أصبح الصراع الإيراني الإسرائيلي يُناقش بمعزل عن مركزية فلسطين. وأورد أن الرأي العام الفلسطيني يشعر، للمفارقة، بأن قضيته تحوّلت إلى سردية توظَّف في الصراعات الإقليمية، دون أن تحظى بموقع فعلي في موازين التفاوض أو في أولويات الأطراف المتنازعة.
ودعا حريبات في ختام تصريحه إلى بناء استراتيجية إعلامية فلسطينية مستقلة تعيد الاعتبار للقضية من داخل السياق الفلسطيني، بعيدًا عن التوظيفات الخارجية التي تسلخها عن مضمونها السياسي الأصيل.