الحرب التي تشنها إسرائيل ضد إيران منذ يوم الجمعة الماضي تأتي في سياق إقليمي معقد يتسم باستمرار استعراض إسرائيل للقوة مقابل تفضيل آليات الحوار والبحث عن الحلول الدبلوماسية. وهي بذلك تشكل الحلقة الأكثر خطورة في هذه المقاربة الإسرائيلية الرامية إلى تصفية كل معارضة لمخططاتها الهيمنية في المنطقة..
لكن على خلاف سياستها في غزة، والتي باتت تواجه انتقادات واضحة، خاصة في العالم الغربي، بسبب تعارضها مع أبسط قيم حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، فإن هجومها على إيران بدعوى منعها من مواصلة برنامجها النووي، وكذا برنامج الصواريخ البالستية، لقي الكثير من التفهم، إن لم نقل التأييد، ارتكازا على تصور مضمنه أن امتلاك إيران للسلاح النووي في ظل النظام الحالي يمثل تهديدا وجوديا ليس فقط لإسرائيل، والمنطقة الشرق أوسطية، بل للعالم برمته؛ اعتبارا للتصريحات والسلوكات التي ميزت إيران منذ سقوط نظام الشاه، والتي خلقت الكثير من الأعداء، وزادت بالتالي من عزلة إيران الدولية، التي تواجه تحديات متنوعة تجعل مستقبل النظام الحالي موضع تساؤل.
لذلك، سنسعى إلى استعراض السياق الذي قاد إلى هذه المواجهة، قبل أن نطرح بعض الإشكالات المترتبة عن هذه المواجهة المتواصلة إلى حد الساعة.
أولا: في سياق الهجمات الإسرائيلية
من الواضح أن الهجوم الإسرائيلي لم يكن اعتباطيا. فضلا عن عوامل أملتها راهنية الملف النووي الإيراني، وتفاعلاته خاصة مع إدارة ترامب، وكذا ما يقع من عدوان متواصل ضد غزة، فإنه يأتي كتتويج لاستراتيجية ظلت دائما تعتبر أن العدو الوجودي لإسرائيل هي إيران. وقد يزداد الأمر خطورة إذا امتلكت إيران السلاح النووي، لأن ذلك من شأنه أن يقلب موازين القوى في المنطقة برمتها.
فيما يتعلق بالراهنية، فإن الهجوم الإسرائيلي استهدف إجهاض مسارين: المسار الأول يرتبط بالتفاوض بين الولايات المتحدة وإيران، والذي كان من المنتظر أن تنعقد جولته السادسة في مسقط، يوم الأحد الماضي. وظلت القيادة الإسرائيلية، كعادتها، متوجسة من احتمال التوصل إلى تسوية قد تعيد إيران إلى الساحة الدولية، وتمكنها من موارد قد تستعملها في تطوير برنامجها النووي؛ وهو ما يشكل هاجسا مؤرقا لأمن إسرائيل، وحتى لدول المنطقة برمتها. أما المسار الثاني، فهو لا يقل تحديا بالنسبة لإسرائيل، وسياستها العدوانية اللاإنسانية ضد الشعب الفلسطيني؛ وهو يتمثل في إجهاض المؤتمر رفيع المستوى الذي كان سينعقد في نيويورك ما بين 17 و20 يونيو، تنفيذا لقرار الجمعية العامة الصادر في دجنبر 2024 لإعادة تنشيط حل الدولتين برئاسة فرنسا والمملكة العربية السعودية. وهو الأمر الذي ترفضه القيادة الإسرائيلية الحالية، التي تعتبر أن كل اعتراف بالدولة الفلسطينية يشكل هدية لـ”حماس” ولما تصفه بالإرهاب. في السياق نفسه فهي تدرك أن انعقاد المؤتمر كان في حد ذاته سيشكل ضغطا واضحا على إسرائيل من أجل التراجع عن سياسة القمع الممنهج الذي تمارسه في الأراضي الفلسطينية، والذي يواجه انتقادات، هذه المرة، حتى من طرف شرائح من الرأي العام الإسرائيلي، التي باتت تستهجن الممارسات الإسرائيلية المناهضة للقيم الإنسانية، والتي نشأت في ظلها إسرائيل بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1947.
ومما شجع نتنياهو على شن هجومه صدور تقرير عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذي انتقد عدم امتثال إيران لالتزاماتها المتعلقة بمنع الانتشار النووي؛ مما يعني تزايد المخاطر من تحويل إيران لبرنامجها النووي لأغراض عسكرية. هذا التوجه دعمه القرار الأخير للوكالة سالفة الذكر، والذي انتقد عدم تعاون إيران مع مفتشي المنظمة الدولية المذكورة.
فضلا عن هذه المسوغات المرتبطة بإفرازات اللحظة الراهنة، فإن ضرب إيران يأتي في سياق العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية التي ترفض مطلقا امتلاك إحدى دول الجوار للقدرات النووية. لنذكر أن إسرائيل قد دمرت في سنة 1981 المفاعل النووي العراقي، لمنع العراق من الارتقاء للسلاح النووي.. لكن بالنسبة لنتنياهو، فقد تحوّل الأمر إلى هاجس مؤرق، حيث إنه سعى منذ توليه السلطة في إسرائيل إلى منع إيران من تطوير برنامجها النووي؛ سواء من خلال انتقاد كل محاولة للتوصل إلى اتفاق مع إيران كما فعل بالنسبة لاتفاق عام 2015 في عهد الرئيس أوباما أم من خلال التعبير عن امتعاضه من كل محاولة لتسوية الملف دبلوماسيا، حتى ولو صدرت عن أقرب حلفائه، أي الولايات المتحدة، فضلا عن العمل على تخريب ذلك البرنامج سواء عن طريق بتصفية العلماء والمهندسين العاملين ضمنه أم استعمال وسائل تكنولوجية لتعطيل تطويره.
لا شك في أن هجمات 7 أكتوبر2023 التي قامت بها “حماس” ضد إسرائيل ستبقى مفصلية في هذا الصراع؛ فإذا كانت قد شكلت في حد ذاتها لحظة صدمة عميقة في المجتمع اليهودي، فإنها مكنتها من المبررات والمسوغات لبسط استراتيجيتها الجديدة في المنطقة برمتها. في تحليلها لما وقع، اعتبرت إسرائيل، ولو بدون حجج، أن إيران وراء تلك العملية. ومن ثم لا مناص من تصفية الحساب معها. وتم ذلك عبر مقاربة ركزت في مرحلتها الأولى على الحد من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط من خلال تصفية وكلائها أو حلفائها الذين كانت تسخرهم إيران في مواجهتها مع إسرائيل. فعلاوة على “حماس” التي ما زالت تؤدي الثمن غاليا، فقد كانت الضربات التي وجهت إلى حزب الله، لا سيما اغتيال قادته، وعلى رأسهم الشيخ حسن نصر الله، وكذا قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، واغتيال عدد من قادة الحرس الثوري في أبريل 2024 ضربة موجعة للنفوذ الإيراني الذي بدأ يتفتت. بشكل ساعد على تصفية نظام الأسد في سوريا الذي كان يمثل إحدى حلقات ما كان يسمى بمحور المقاومة ضد إسرائيل.
هذه الضربات المتوالية جعلت إيران تفقد عمقها المباشر في مواجهة إسرائيل، وتصبح مكشوفة بدون غطاء واق. بالمقابل، بدأت تتبلور الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة بقيادة اليمين المتطرف، والمتمثلة في ضرب كل من تسول له نفسه، أين ما كان، تهديد الأمن الإسرائيلي. فنحن أمام استراتيجية هجومية واستباقية تستفيد من قدرات استخبارية هائلة، ومن إمكانيات تكنولوجية متقدمة في المجال العسكري، وكذا من المساندة الأمريكية المتواصلة. ومن ثم بدأت الخطوة الثانية، وهي المتمثلة في اختبار مناعة إيران في مواجهة الاختراق الإسرائيلي. في هذا السياق، فقد شكل اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لـ”حماس”، الذي جاء ليشارك في تنصيب الرئيس الإيراني الجديد في قلب العاصمة طهران رسالة واضحة على عمق درجة الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي لإيران.
تبرر إسرائيل هجومها على إيران ارتكازا على حماية نفسها من الخطر الوجودي الذي يمثله امتلاك إيران للقنبلة النووية؛ وهي بذلك تحيلنا إلى مفهوم الحرب الوقائية، وهو المفهوم الذي استندت إليه إدارة بوش في سنة 2003 لشن هجومها على العراق بدعوى امتلاكها لأسلحة كيميائية ومساندتها للإرهاب؛ لكن مجلس الأمن لم يسايرها في ذلك الطرح. في نظر القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فإن اللجوء إلى استخدام القوة في العلاقات الدولية يبقى محرما، إلا في حالتين، وهما: حالة الدفاع الشرعي والذي حدد العرف والفقه شروط ممارسته، والإجراءات التي قد يتخذها مجلس الأمن في سياق الفصل السابع من الميثاق؛ وهما شرطان منعدمان في حالة الهجوم الإسرائيلي الراهن. لذلك، من زاوية القانون الدولي، تجد أغلب الدول الغربية نفسها في حرج. ففي الوقت الذي تدين العدوان الروسي على أو كرانيا، فإنها لا تتردد في إيجاد المبررات لهذا العدوان، ولا سيما حق إسرائيل في الدفاع عن وجودها، في ظل المخاطر المحتملة لحصول النظام الإيراني على القنبلة النووية. وتدعم الرواية الغربية الادعاء القائل إن إمكانية تحقق إيران من السلاح النووي أصبحت مسألة أيام أو شهور فقط، دون أن نعرف بالضبط مدى مصداقية هذا الادعاء الذي لم يخضع في وسائل الإعلام الغربي لأي نقاش جدي حول مصداقيته.
ثانيا: إلى أين تتجه هذه المواجهة؟
المعاينة الموضوعية لمجريات هذه المواجهة خلال الأيام الماضية تكشف بوضوح عن تفوق إسرائيلي ملموس، حيث إن الطائرات الحربية الإسرائيلية سيطرت على المجال الجوي الإيراني، وباتت إسرائيل تتصرف وكأنها سيدة ذلك المجال؛ مما يسمح لها بحرية أكبر لضرب الأهداف التي تحددها. هذا الاختلال الواضح لموازين القوى بين الطرفين، لصالح إسرائيل، ليس مستغربا؛ فالقدرات الإسرائيلية ليست نابعة فقط من قدراتها الذاتية، بل إن الولايات المتحدة لا تتردد في مدها بالعتاد المتطور، كما هو الأمر بالنسبة للطائرات الحربية الحديثة أو القنابل ذات القدرات الهائلة على دقة التدمير. فضلا عن ذلك، من الناحية المبدئية، لا يمكن أن يتصور الغرب هزيمة لإسرائيل؛ فكما وصفها الجنرال دوغول إبان حرب 67، فهي تجسد شعبا فخورا بنفسه ومهيمنا. فذلك من ثوابت عقيدته الاستراتيجية فيما يتعلق بهذه الدولة، خاصة أنه ضمنيا يعتبر أن إسرائيل تقوم مكانه بحرب ضد نظام أوتوقراطي ليس صامدا إلا بممارسة العنف ضد معارضيه، والعمل على زعزعة الاستقرار الإقليمي. بالمقابل، بدا الاختلال واضحا في الاستراتيجية الإيرانية؛ فهي تقريبا بدون دفاعات جوية. ولا شك في أن سنوات الحصار منعتها من تحديث ترسانتها الدفاعية. في الوقت الذي اكتفت فيه بإطلاق صواريخ بالستية وطائرات مسيرة، لا شك في أنها أصابت أهدافا في قلب إسرائيل؛ لكن لا يبدو أنها كافية لزعزعة الاستقرار أو ردع إسرائيل. أكثر من ذلك، فإن الاختيارات السياسية للنظام الإيراني خلقت شروخا داخل المجتمع الإيراني؛ فغياب الديمقراطية، وخاصة حرية التعبير، خلق هوة بين الحاكمين وبين شرائح واسعة من المجتمع. ومن الواضح أن سلسلة الاغتيالات التي تعرضت لها، سواء قيادة الجيش أم علماء البرنامج النووي، لم تكن ممكنة دون تواطؤات داخلية مع إسرائيل، وربما على مستوى عال، مكنت من اختراق الأجهزة الأمنية الإيرانية. لذلك، تبقى القوة الوحيدة لإيران مرتبطة ببرنامجها الصاروخي البالستي؛ وهو السلاح الذي مكنها من اختراق الدفاع الجوي الإسرائيلي رغم صلابته. لكن السؤال يبقى مرتبطا بهذا المخزون، وبمدة صلاحيته للاستعمال.
لكن السؤال الأساس الذي يطرحه أغلب المحللين لهذه المواجهة ينصب على مسألتين ترتبطان جوهريا بالأهداف الحقيقية لهذا العدوان الإسرائيلي، وهما، من جهة حقيقة الخسائر المتعلقة بالبرنامج النووي، وتلك المتعلقة بمنصات إطلاق الصواريخ البالستية، ومن جهة أخرى مدى قدرة النظام الإيراني على الصمود لمواجهة هذه اللحظة العصيبة في تاريخه، في ظل مراهنة العديد من الدول على سقوطه بفعل تناقضاته الداخلية. أكثر من ذلك: ما هو الموقف الحقيقي للرئيس الأمريكي إزاء ما يجري؟ وهل يسعى فعلا إلى إجبار الطرفين على التوصل إلى تسوية أم أنه سيجاري نتنياهو في مشروعه الهادف إلى تفكيك النظام الإيراني؟
فيما يخص حجم الخسائر التي تعرض لها البرنامج النووي الإيراني، يطرح السؤال حول ما إذا كانت الضربات مكنت إلى حد الساعة من التسرب إلى عمق المفاعلات النووية خاصة ناتانز وفوردو، أم يقتصر الأمر على خسائر سطحية لم تؤثر على اشتغال الطرود المركزية. وفي حالة ما إذا كان هذا الهدف لم يتحقق بعد، هل ستمكن الولايات المتحدة إسرائيل من نوع خاص من القنابل الضخمة القادرة على التسرب إلى عمق هذه المفاعلات لتدميرها. ما هو مؤكد اليوم أن سلسلة الاغتيالات التي اصابت العلماء الإيرانيين العاملين في هذا المجال، وتلك التي استهدفت قيادات عسكرية، لا شك سيكون لها تأثير على مستقبل البرنامج النووي الإيراني.
يدور النقاش أيضا حول وضعية ترسانة الصواريخ البالستية التي تشكل إلى حد الساعة السلاح الفعال في يد القوات الإيرانية. هناك فقط تقديرات حول عدد تلك الصواريخ، وأيضا مجرد تصريحات بشأن الدمار الذي لحق بعض منصات إطلاقها؛ لكن بفعل انتشارها عبر التراب الإيراني، ليست هناك معطيات دقيقة حول ما تبقى منها. وما هي البدائل في حالة استمرار المواجهة لمدة طويلة؟
في ظل هذا الاختلال الواضح لموازين القوى، وإصرار نتنياهو على تحقيق النصر النهائي من خلال تفكيك النظام الإيراني الحالي تطرح اليوم تساؤلات حول صمود هذا النظام. تراهن إسرائيل، ومن ورائها الغرب، ودول أخرى، على احتمال انهيار النظام تحت هذه الضربات. ولتحقيق هذا الهدف الرئيسي، تسعى إسرائيل إلى ضرب كافة الأهداف الاستراتيجية التي من شأنها أن تحرم النظام من وسائل الاتصال مع مواطنية، وخاصة أتباعه، فضلا عن مواصلة اغتيال شخصيات نافذة في النظام، موحية بذلك أنها باتت قادرة على مطاردة أعمدة النظام واغتيالهم، على شاكلة ما فعلت مع الشيخ حسن نصر الله وإسماعيل هنية وقادة آخرين. وهي بذلك توحي بأنها أصبحت متحكمة في الفضاء الإيراني برمته. وتراهن على تمرد شعبي للإطاحة بالنظام الحالي. في حالة تحقق ذلك، هل سيفضي إلى انهيار النظام الحالي برمته؟ وهل سيؤدي هذا التغيير القيصري إلى خلق شروط أحسن للاستقرار سواء في إيران أم في محيطها الإقليمي.. على هذا المستوى، يظل الحذر واجبا.
لقد علمت مجموعة من التجارب أن الأنظمة، مهما كانت لا شعبيتها، لا يمكن أن تسقط بفعل تدخل خارجي. وحتى إذا تحقق ذلك، فهو ليس بالضرورة عنوانا للاستقرار أو للتخلي عن بعض الخيارات الحيوية السابقة؛ فخيار امتلاك السلاح النووي ليس فقط من خيارات النظام الحالي. إنه خيار وطني تبلور في عهد الشاه. فهل سيفلح العدوان الإسرائيلي في تغيير مساره؟
عطفا على ما سبق، بصرف النظر عن اختلال موازين القوى، يظهر واضحا أن مآلية المواجهة الحالية بين إيران وإسرائيل ليست رهينة فقط بإرادة الطرفين؛ بل كما أسلفنا، فإن الدور الأمريكي يبقى حاسما في تحديد مستقبلها. ويبقى موقف الرئيس الأمريكي، الذي ظل كعادته مشوبا بنوع من الغموض، حاسما في التأثير على الطرفين، وخاصة النظام الإيراني، الذي ربما بات أكثر استعدادا لتقديم تنازلات واسعة فيما يتعلق ببرنامجه النووي، لضمان استمراريته وتجنيب البلاد مزيدا من الدمار والمعاناة. فإلى أي خيار يميل الرئيس الأمريكي هل إلى مزيد من الدعم لإسرائيل أم إلى إقرار تسوية لن تكون على كل حال في صالح إيران؟ ذلك هو السؤال الذي ستجيب عنه الساعات أو الأيام المقبلة.