“نادي شنغن” في أربعين سنة .. القلق السيادي يواكب التوسع الجغرافي

اجتمع ممثلو حكومات بلجيكا وألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ وهولندا على متن قارب في قرية صغيرة بلوكسمبورغ يوم 14 يونيو من عام 1985، وكان الموقع الرمزي على نهر موزيل، عند نقطة التقاء فرنسا ولوكسمبورغ وألمانيا، هو بلدة شنغن؛ حيث جرى قبل 40 عاما توقيع “اتفاقية شنغن” لحرية الحركة والتنقل.

هدفت الاتفاقية إلى إلغاء عمليات التفتيش على الحدود بين الدول الأعضاء بشكل تدريجي، مما يمهد الطريق أمام حرية تنقل الأشخاص، وتم تنفيذ الاتفاقية بالكامل في عام 1995، مما أدى إلى إنشاء منطقة سفر تخلو من جوازات السفر في معظم أنحاء أوروبا.

تضم شنغن اليوم 29 دولة، 25 منها أعضاء في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى أيسلندا وليختنشتاين والنرويج وسويسرا.

أيرلندا وقبرص هما العضوان الوحيدان في الاتحاد الأوروبي اللذان لم ينضما لشنغن: فالأولى لديها منطقة سفر مشتركة مع المملكة المتحدة ومن شأن ذلك أن يخلق مشاكل على الحدود، والثانية في طور الانضمام حاليا.

وتسعى دول أخرى إلى الانضمام، مثل ألبانيا المتمتعة بتعاون اقتصادي وسياسي وأمني متزايد مع دول شنغن، واستفادت من السفر بدون تأشيرة منذ عام 2010.

يوصف نادي شنغن، غالبا، بأنه حجر الزاوية في التكامل الأوروبي، ويحظى بدعم شعبي قوي، وقال 72% من المشاركين في استطلاع أجراه مؤشر “يوروباروميتر”، في شهر أكتوبر الماضي، إن اتفاقية شنغن تشكل أحد أهم إنجازات الاتحاد الأوروبي.

الفوائد الاقتصادية

يؤكد انضمام رومانيا وبلغاريا الكامل إلى شنغن في يناير الماضي، بعد سنوات من التأخير، الهدف من وراء عضوية المنطقة، حيث أدى الإلغاء الكامل لعمليات التفتيش على الحدود إلى تحقيق فوائد اقتصادية ملحوظة.

عززت هذه الخطوة جاذبية رومانيا للمستثمرين الأجانب، بحسب ما ذكره وزير المالية الروماني تانشوس بارنا، وأدى إلغاء الضوابط الحدودية إلى تبسيط الخدمات اللوجستيكية وتقليص فترات الانتظار وخفض التكاليف، مما جعل رومانيا أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق الأوروبية.

وفي بلغاريا، وصف رئيس الوزراء آنذاك نيكولاي دينكوف هذا الإنجاز بأنه “أكبر نجاح للدبلوماسية البلغارية” منذ انضمام البلاد إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2007.

وقال ديميتار ديميتروف، من غرفة النقل البري البلغارية، إن التأخير على الحدود مع رومانيا كان يكلف القطاع في السابق حوالي 300 مليون يورو سنويا، بمتوسط فترات انتظار تراوحت بين 10 ساعات و15 ساعة.

وفي كرواتيا، الملتحقة في عام 2023، تتمتع عضوية البلاد في شنغن بدعم شبه كامل، وإلغاء الضوابط الحدودية مهم للغاية بالنسبة لكرواتيا كوجهة سياحية، حيث يأتي الكثيرون إليها بالسيارات. ومنذ انضمام البلاد إلى شنغن، اختفت الطوابير التي كانت تمتد كيلومترات عند المعابر الحدودية مع سلوفينيا والمجر خلال أشهر الصيف.

“هل تتآكل؟”

رغم الفوائد العديدة لشنغن، واجهت المنطقة تحديات، خاصة خلال العقد الأخير، وأعادت دول عدة فرض الرقابة على الحدود، عادة في مسعى للحد من الهجرة والإرهاب.

وحيث إن عمليات التفتيش الفورية لا تستهدف كل سيارة تعبر الحدود، لا يعاني العديد من المسافرين من أي تعطيل يذكر، على النقيض مما حدث أثناء جائحة “كوفيد-19″، عندما أغلقت العديد من الدول حدودها بالكامل، تقريبا، في بعض الأحيان.

وفي أعقاب الهجمات الإرهابية التي وقعت في نونبر 2015، أعادت فرنسا العمل بنظام التفتيش المفاجئ على حدودها البرية والبحرية والجوية مع الدول الأخرى الأعضاء في شنغن، وجددت الخطة كل ستة أشهر منذ ذلك الحين، آخرها حتى أكتوبر 2025.

وفي عام 2015، فرضت النمسا عمليات تفتيش مؤقتة على الحدود مع سلوفينيا والمجر، في رد فعل على مستويات الهجرة المرتفعة، ولطالما جرى تمديد هذه العمليات، مما أثار صعوبات أمام الشركات والمسافرين عبر الحدود.

وفي أكتوبر عام 2023، فرضت سلوفينيا عمليات تفتيش على حدودها مع المجر وكرواتيا، بينما كانت إيطاليا أعادت، في وقت سابق، فرض الرقابة على الحدود مع سلوفينيا بسبب زيادة تدفقات الهجرة على طول ما يسمى “طريق البلقان”، والمخاوف الأمنية الوطنية التي أثارها ذلك.

إعادة الضوابط

تقول المفوضية الأوروبية إن عمليات التفتيش المؤقتة على الحدود مسموح بها “حال وجود تهديد خطير للسياسة العامة أو الأمن الداخلي”، ولكن يجب تطبيقها كإجراء أخير، وفي حالات استثنائية.

ويمكن للدول الأعضاء تطبيق عمليات التفتيش إذا قدمت مبررا صالحا، ويمكن تمديدها كل ستة أشهر، وهو ما يصل في العادة إلى عامين، وبعد ذلك يجب تغيير المبرر حتى تظل عمليات التفتيش الحدودية سارية.

وفي الوقت الحالي، أعادت سلوفينيا والنمسا وهولندا والدنمارك وفرنسا والنرويج والسويد وألمانيا وبلغاريا وإيطاليا فرض الرقابة على الحدود، مؤقتا إلى حد ما.

وعززت الحكومة الألمانية الجديدة الدوريات على الحدود منذ توليها مقاليد السلطة شهر ماي الماضي، مما أثار حالة من الإحباط لدى بعض الدول المجاورة.

وقال وزير داخلية لوكسمبورغ، ليون جلودين، خلال اجتماع مع نظيره الألماني ألكسندر دوبريندت، نهاية ماي الماضي: “علينا تجنب خلق حدود في أذهان الناس مرة أخرى .. يجب لاتفاقية شنغن أن تستمر”.

واشتكت عمدة مدينة ستراسبورغ ونظيرتها عبر نهر الراين في بلدة كيل الألمانية من تشديد إجراءات التفتيش على الحدود بينهما، وذلك في رسالة احتجاج إلى المستشار الألماني فريدريش ميرتس. وكتبتا إن هذا الأمر يضر بالحياة اليومية ويتسبب في انخفاض عدد المتسوقين من ستراسبورغ الذين يزورون كيل.

وعلى مدى السنوات العشر الماضية أعادت ألمانيا، على نحو تدريجي، فرض عمليات تفتيش مؤقتة على طول جميع حدودها البرية في محاولة للحد من الهجرة غير النظامية.

ولكن الحكومة الجديدة، التي تولت مهامها يوم 6 ماي الماضي، كثفت عمليات التفتيش فضلا عن السماح لحرس الحدود برفض استقبال الذين يتطلعون إلى طلب اللجوء.

كما انتقد رئيس وزراء بولندا، دونالد توسك، هذه الخطوة التي أدت إلى إعادة آلاف المهاجرين عبر الحدود من ألمانيا، وهدد يوم الأربعاء الماضي بفرض ضوابط مؤقتة على الحدود مع ألمانيا، حال استمرار الضغط على المناطق الحدودية.

دول تتجنب التفتيش

قاومت العديد من دول شنغن الاتجاه السائد بين جيرانها لإعادة فرض الرقابة على الحدود.

ونادرا ما شددت بلجيكا قواعدها الحدودية، ولم تفعل ذلك إلا بشكل مؤقت خلال جائحة “كوفيد-19” في عام 2021.

وهذا أمر كاشف، بالنظر إلى أن بلجيكا، مثلها مثل جيرانها، قد تعرضت لضغوط بسبب الهجرة والحوادث الأمنية، مثل الهجمات الإرهابية التي شهدتها العاصمة بروكسل في عام 2016.

وفي كل مرة أعادت فيها فرنسا أو ألمانيا أو هولندا المجاورة فرض الرقابة على الحدود، دافعت بلجيكا عن حرية حركة البضائع، وسعت إلى التأكد من عدم تعطل التجارة بشكل كبير.

وبالمثل، لم تقرر البرتغال إعادة فرض الرقابة على الحدود، باستثناء في بعض الأحداث الكبرى مثل زيارة البابا إلى لشبونة في عام 2010، وفترة الجائحة.

وظل الرأي العام في البرتغال مؤيدا الانضمام إلى شنغن بشكل كبير، حيث يعتبرها رمزا للتكامل الأوروبي وحرية التنقل، رغم الوعي المتنامي بالتحديات الأمنية المرتبطة بها، وتلك المتعلقة بمراقبة الهجرة.

متحف شنغن

لاحظت أمينة متحف مخصص لمنطقة شنغن تغير موقف بعض الدول تجاه المنطقة، في البلدة بلوكسمبورغ حيث بدأ كل شيء.

وبعد أعمال التجديد، جرى افتتاح المتحف أمس السبت في إطار الاحتفالات بالذكرى الأربعين لتأسيس منطقة شنغن.

وقالت مديرة المتحف، مارتينا كنيب، إن أمورا كثيرة تغيرت منذ افتتاح المتحف لأول مرة في عام 2010.

وأضافت: “في ذلك الوقت، كان يتم الاحتفال بالحدود المفتوحة بالفعل”، ولكن مع “كوفيد-19” وأزمة اللاجئين، انطلقت الصرخة المفاجئة: “ماتت اتفاقية شنغن، ولم يعد أحد يريدها بعد الآن، فهي المسؤولة عن كل شيء.”

وسعى المتحف إلى الاستجابة لهذا التغيير في التصور، وكان ذلك أحد أسباب التجديدات.

وقال رئيس بلدية شنغن ميشيل غلودن: “في المتحف يمكن للجميع أن يروا بأنفسهم مدى قيمة ومعنى فكرة شنغن”.

وأضاف غلودن: “نجحنا في تفكيك الحدود بين الدول، ويجب عدم السماح للحدود الموجودة في أذهان الناس بأن تظهر من جديد.”

Exit mobile version