قدّر محللون في الشؤون الاقتصادية أهمية التدابير المعلنة ضمن مُخرجات ثاني اجتماع لتتبع خارطة الطريق الحكومية لإنعاش التشغيل (منذ إصدار المنشور الخاص بخارطة الطريق في فبراير الماضي)، في “نوعية قطاعات المبادرات المطروحة” و”استعجالية زمن التنزيل”، فضلا عن “التقائية السياسات العمومية ورفع نجاعة التدبير”.
وجاء الاجتماع، المنعقد هذا الأسبوع بمشاركة مسؤولين حكوميين من القطاعات المعنية أبرزهم وزيرَا التربية الوطنية والفلاحة والتنمية القروية، فضلا عن مسؤولي وزارة الميزانية، حسب رئاسة الحكومة، مستكمِلا “سلسلة الاجتماعات التي يترأسها رئيس الحكومة لتتبع تنزيل هذه الخارطة بشكل فعال، ووضع ميكانيزمات الحكامة وآليات التنسيق بين مختلف المتدخلين”.
وانكب المجتمعون على “كيفية التنزيل والأجرأة الفعلية لتنفيذ هذه المبادرات، وفي صلبها تحفيز التشغيل في العالم القروي، لاسيما تحفيز فئة الشباب على إحداث مقاولات ناشئة تنشط في القطاع الفلاحي”، و”مبادرات تهم تقليص وتيرة فقدان مناصب الشغل في القطاع الفلاحي، وتذليل العوائق أمام ولوج المرأة إلى الشغل (أساسا عبر دُور الحضانة)، ومحاربة الهدر المدرسي وخفضه إلى النصف”.
نقلة نوعية
حسب محمد عادل إيشو، أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة بني ملال، فإن هذا الاجتماع، الذي ترأسه رئيس الحكومة لمتابعة تنفيذ خارطة الطريق لقطاع التشغيل، “يجسد نقلة نوعية من مرحلة التخطيط النظري إلى بداية التفعيل الميداني، مع تركيز خاص على الفئات الهشة في المجالات القروية وشبه الحضرية”.
ونوّه إيشو، في تصريح لجريدة النهار، بـ”تمحوُر التدابير المعلن عنها حول ثلاث أولويات اجتماعية رئيسية: الحد من فقدان مناصب الشغل في القطاع الفلاحي، تعزيز ولوج النساء إلى سوق الشغل، ومحاربة الهدر المدرسي”، قارئا في ذلك ثلاث دلالات كبرى.
أولا؛ يُبرز الانكباب على تقليص نزيف مناصب الشغل في الفلاحة، “وعيا حكوميا بأهمية هذا القطاع كمَصدر رئيسي للتشغيل في المغرب، بالرغم من التحديات البنيوية والمناخية التي تهدده”. وقال المصرح لجريدة النهار إن “دعم الشباب لخلق مقاولات فلاحية خطوةٌ واعدة لتنشيط الاقتصاد المحلي؛ لكنها تظل مشروطة ببيئة أعمال مشجعة وآليات تمويل ناجعة”.
ثانيا، فإن “الإجراءات الخاصة بتيسير ولوج النساء لسوق العمل توجُّها نحو معالجة المعيقات البنيوية، خصوصا ما يتعلق بإشكالية رعاية الأطفال، عبر توسيع عرض دور الحضانة. هذه المقاربة تندرج ضمن تصور “العدالة الوظيفية”، الذي يجعل من تمكين النساء اقتصاديا مسؤولية جماعية ومؤسساتية”.
أما ثالثة الدلالات فتهمّ “تكثيف جهود محاربة الهدر المدرسي من خلال دعم “إعداديات الريادة” و”مدارس الفرصة الثانية” بمقاربة تربط المدرسة بسوق الشغل، وتهدف إلى إعادة دمج المتسرّبين في مسارات تعليمية أو مهنية بديلة، ما ينسجم مع الرؤية الوطنية لتنمية الرأسمال البشري”، بتعبير الاقتصادي ذاته.
من جهة أخرى، سجل إيشو أن “تأكيد الحكومة على ضرورة تحقيق الالتقائية بين القطاعات يعكس إدراكا لمحدودية نجاعة السياسات العمومية في غياب التنسيق والحكامة الفعالة”.
ويبقى التحدي الرئيسي، حسب خبراء اقتصاد استطلعت رأيهم جريدة النهار، هو “حسن تنزيل هذه البرامج واستدامتها، خاصة في ظل تخصيص غلاف مالي يناهز 15 مليار درهم”؛ وهو ما أشار إليه عبد المنعم مَجد، أستاذ باحث بكلية العلوم الاقتصادية والقانونية بمراكش ورئيس القطب المغربي للدراسات والأبحاث الإستراتيجية، بتوصيف “الرافعة المالية”، خاصة عبر “استدماج تحفيز التشغيل في القطاع والأنشطة الفلاحية بأدوات تدخلية أبرزها الآلية الضريبية في قوانين المالية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر”.
رغم أهمية هذه المبادرات، فإن إيشو ذكّر بأن سوق الشغل “يعاني أساسا من اختلالات هيكلية لا يمكن معالجتها فقط بإجراءات ظرفية أو آنية؛ ما يستدعي معالجة هذه الأزمة بإصلاحات عميقة وطويلة الأمد ترتكز على تنويع قاعدة الإنتاج، ورفع تنافسية الاقتصاد الوطني، وربط التكوين بمتطلبات سوق العمل”.
استعجالية ونجاعة
لم يُغفل مجد، في تصريحه لجريدة النهار، أهمية “المقاربة الزمنية الحاضرة بشكل محدد وحاسم”. وقال معلقا: “هذا يتبيّن بين ثنايا مخرجات البلاغ الحكومي لتتبع تنزيل خارطة التشغيل؛ فعلى الرغم من مؤشرات تحسُّن ملموس على مستوى الأمطار سيطال محاصيل هذه السنة ما ينعكس على فرص العمل وصحوة ناتج القطاع، فإن اقتراب موعد كأس إفريقيا لكرة القدم وتسارع دينامية أوراش بنية المونديال تجعل المدبّر العمومي يتخذ إجراءات ملموسة وتدابير بمقاربة تشاركية؛ ولكن تستحضر الالتقائية والنجاعة في آن واحد”.
وتابع الأستاذ الباحث بجامعة مراكش: “الدبلوماسية الاقتصادية عبر الانفتاح المغربي على أسواق جديدة، فضلا عن جاذبية القطاع السياحي سترفع بشكل أكيد من التشغيل في أنشطة النقل ومدبّري الخدمات (ما يسمى أنشطة موازية).
ودعا إلى مواكبة “الالتقائية المكرَّسة من خلال مؤشرات أداء ونجاعة قابلة للقياس؛ وهو ما يظهَر من رمزية المؤسسات ومسؤوليها الحاضرين للاجتماع”، مشددا على أن “التشغيل هو ورش للدولة ولا يقبل التسييس؛ فبعضها المتعلق بالهدر المدرسي والتكوين المهني يمكن أن نرى نتائجه بعد 2026”.
إجمالا، أجمع الباحثان الاقتصاديان على أن المحاور الثلاثة المطروحة – إنعاش التشغيل، تمكين النساء، ومحاربة الهدر المدرسي – “متكاملة ومترابطة؛ غير أن تفعيلها يتباين من حيث الأثر الزمني والنتائج”، قبل دعوتهما إلى “تجاوز منطق ‘خارطة الطريق’ إلى بلورة استراتيجية وطنية شاملة، بالارتكاز على التدرج الزمني وتحديد مؤشرات دقيقة لقياس الأثر، لا سيما في ملف محاربة الهدر المدرسي الذي يمثل ركيزة أساسية لبناء إنسان مؤهل ومنتج، وقادر على الاندماج في سوق الشغل، لا مجرّد مستفيدٍ ظرفي من دعم اجتماعي”.