تقع منطقة “فم الجمعة”، التابعة لقيادة تنانت، الخاضعة للنفوذ الترابي لإقليم أزيلال، على طول الطريق الجهوية، الرابطة بين مركز أولاد عياد الذي يتوسط بني ملال ومراكش، وتبعد عن دائرة بزو بحوالي 50 كيلومترا، ويبلغ عدد سكانها حوالي 14 ألف نسمة.
هي منطقة أثرية مازالت تحافظ على أطلالها، وترتدي عباءتها القديمة، وترفض مُكرهة أن تساير عصر التطور، وتستجدي السلطات لتعيد إليها مجدها، إذ في الوقت الذي تتربع فيه أزيلال، أو قمة المرتفع بالأمازيغية، على عرش سلسلة جبال الأطلس، في شموخ وأنفة، تجنح “فم الجمعة” إلى دائرة الظل والنسيان.
تشير الروايات الشفهية لبعض الشيوخ من منطقة “فم الجمعة” إلى أن هذه الأخيرة كانت مركزا حيويا للقوافل التجارية، ومعبرا مهما مر منه عظماء الملوك نحو مراكش، كما كانت موطنا لليهود المغاربة في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات. وكانت تلك الأيام، حسب روايات هؤلاء الشيوخ، مزدهرة بالتجارة، إذ كان رجالها يشترون المنتوجات المحلية، ويبيعونها بالمدن الكبرى، مقابل تزويد إقليم أزيلال بكل ما يحتاجه من السلع الاستهلاكية الأخرى، إلى جانب العمل في الفلاحة وتربية المواشي.
خارج التغطية
تعتبر منطقة “فم الجمعة” المركز التجاري الأول على مستوى إقليم أزيلال، إلا أنها ما زالت تعيش “خارج التغطية”، كما عبّر عن ذلك بعض سكانها، لأن القرية، كما يرونها، “مازالت فقيرة ولا تستطيع الاستجابة لمتطلبات سكانها التي في مجملها بسيطة ومعقولة.
ويؤكد بعض أهالي المنطقة أن المدينة تفتقر إلى المرافق الاجتماعية، وتعاني ضعفا في البنية التحتية، حتى أن طريقها الرئيسية وطرقها الفرعية، تعرف العديد من المشاكل الحقيقية، وخاصة الطرق المؤدية لدواري إمداحن وآيت مجاطن، وأيضا، تتوفر على مركز صحي واحد، لا يغطي سوى 10 في المائة من حاجيات السكان، في ظل غياب الأطر الصحية وافتقاره إلى التجهيزات الكافية.
إضافة إلى ذلك تتوفر على 4 مؤسسات تعليمية فحسب، بينها ثانوية استحدثت أخيرا، وتبعد عن مركز المدينة بأزيد من 5 كيلومترات، ما يمنع الكثير من التلاميذ والتلميذات من متابعة دراستهم بها.
قافلة النور
استنفر واقع التهميش، الذي تعانيه مدينة “فم الجمعة”، المجتمع المدني لفك العزلة عن المنطقة ومحاولة مساعدة بعض سكانها، في انتظار أن تتحرك الجهات المعنية، وذلك من خلال تنظيم حملات خيرية، وكانت بينها “قافلة النور”، في دورتها الثانية، التي نظمتها كل من مجلتي “بسمة” و”سيدتي” إلى قرية “فم الجمعة”، يومي 21 و22 فبراير الجاري، واستطاعت أن تمنح أهالي دوار “تاجكاكات” ملابس الصيف والشتاء، والأغذية، إلى جانب تقديم مجموعة من الخدمات الصحية.
تجاوزت عقارب الساعة التاسعة والنصف، عندما انطلقت سيارة “مجموعة ماروك سوار”، وعلى متنها صحافية مجلة “بسمة”، من الدارالبيضاء، بعد التنسيق مع عزيزة حلاق، رئيسة تحرير المجلة، وطاقم “مجلة سيدتي”، والطاقم الطبي المرافق، وبعض الفاعلين في المجتمع المدني، القادمين من الرباط، وتحديد مكان اللقاء، في باحة الاستراحة بالطريق المؤدي إلى سطات، لتسير القافلة متجهة نحو الطريق المؤدي إلى أزيلال، عبر قلعة السراغنة، وبعد ساعات بدت علامة إقليم أزيلال، لتظهر المدينة القابعة في حضن سلسلة جبال الأطلس، وكأنها عروس لطخت فستانها بأخضر نقي يسر الناظرين إليها، فعرجنا على البروج، وبزو، عبر منعرجات صعبة نوعا ما، وبعد ذلك، وصلنا إلى “فم الجمعة”، بعد ساعات طويلة في رحلة شاقة وممتعة، كانت الساعة شارفت على الثالثة بعد الظهر.
وبعد “استراحة محارب”، كما يقولون، توجهت القافلة إلى “دار الطالبة”، لتمد التلميذات بمجموعة من الملابس، وأكياس تضم منتجات للتجميل، وتتعرف على مشاكلهن، بدءا من الفقر، وهشاشة البنية التحتية، ووصولا إلى الهدر المدرسي، إلى جانب عدم توفرهن على تغطية صحية مناسبة، وأيضا، ندرة وسائل النقل الخاصة بالتلاميذ، إذ يجري نقلهم بين الجبال، في أحسن الحالات، في سيارة كبيرة غير مريحة، يطلقون عليها “المقاتلة”.
شهادات مؤثرة
تقول مريم، 17 سنة، تدرس بالسنة الأولى باكالوريا، شعبة الآداب العصرية، إنها تقطن بـ “دار الطالبة” منذ سنة، مشيرة إلى أن إقناع والديها بذلك لم يكن سهلا، خاصة أنها قادمة من دوار بعيد عن هذه الدار، ولا تزور عائلتها سوى مرتين في كل شهر. وتضيف مريم أن المنطقة تندر فيها وسائل النقل، الخاصة بالتلاميذ، إذ أحيانا، يجري نقلهم في عربات كبيرة تستعمل في نقل المواشي.
وتعاني مريم مثل غيرها، من الفقر، خاصة أن والدها، هو المعيل الوحيد لأسرتها، يشتغل أحيانا في الفلاحة، وفي بعض الأحيان، يبيع المواشي، وهي أعمال موسمية لا تكفي لإعالة أسرة تتكون من 7 أفراد.
إيمان، بدورها، ولجت “دار الطالبة”، لبعد دوارها “أمشكت” عن المدرسة بعدة كيلومترات، لا يمكنها أن تقطعها مرتين في اليوم الواحد، خاصة حين تحاصر الثلوج المنطقة.
تقول إيمان، التي تدرس حاليا في السنة الثانية إعدادي، “رغم أن القائمين على “دار الطالبة” يسعون لتوفير احتياجاتنا، إلا أن المركز يفتقر للعديد من الضروريات، بينها الحواسيب والربط بشبكة الإنترنت، التي نحتاجها لإجراء البحوث”.
لم تكن باهية، التي تدرس بالسنة الرابعة إعدادي، أوفر حظا من زميلتيها بالدار، فهي تتحدر من دوار كيمي، الذي يفتقر إلى أبسط مقومات العيش الكريم، وهو دوار يتحدث أغلب سكانه الأمازيغية، ما يجعل بعض المعلمين، غير الناطقين بها، يجدون صعوبة في التواصل مع تلاميذ الدوار. وتحلم باهية أن تصبح أستاذة للعلوم الفيزيائية، رغم أنها تتخوف من المسار الدراسي الذي ستسلكه، لأنها تعلم حجم معاناة المنطقة، في غياب الظروف الملائمة لتحقيق طموحها.
أما أمينة، وتدرس بالسنة الثالثة إعدادي، فتتحدر من دوار “إمشيحن”، الذي يتحدث سكانه الأمازيغية أكثر من العربية، ولديها أخت صغرى تدرس بدورها، وأخ يقطن بـ “دار الطالب”،فتقول إنها تتمنى أن تتخصص في اللغة الفرنسية، وتحلم بتغيير أوضاع منطقتها التي تعاني التهميش، خاصة في أيام البرد، أو “أبريد” حسب لهجة المنطقة، إذ يتعرضون خلالها لنزلات برد قوية، لا ينفع معها ارتداء ملابس صوفية بالية أو شراب ضد السعال، يجري اقتناؤه يوم السوق الأسبوعي.
فاطمة الزهراء تدرس بالسنة الثانية باكالوريا، تتحدر من دوار أيت مالك، الذي يقطنه الناطقون بالأمازيغية والعربية، واضطرت للسكن في “دار الطالبة”، منذ 3 سنوات، بعد أن عارض والداها في البداية متابعة دراستها، لولا أنها “حزرت ليهم”، وتقصد أنها حاولت إقناعهم. وتحلم أن تكون مهندسة، وأن تغيّر أوضاع المرأة في منطقتها، التي توكل إليها مهمة الأشغال المنزلية وتلقي كل المسؤولية عليها، بينما يُعفيى الرجال من تحمل العديد من المسؤوليات.
أهالي الدواوير يعانون الفقر لكنهم يتمتعون بعزة النفس
تفيد سعيدة واعتيق، حارسة عامة بـ “دار الطالبة” بأن هذه الدار، شيدت خلال الموسم الدراسي 2004-2005، من طرف مؤسسة محمد الخامس للتضامن، التي جهزتها أيضا، ويجري تسييرها تحت إشراف “التعاون الوطني”، وكانت في البداية عبارة عن “دار الطالب والطالبة”، وتحولت إلى “دار الطالبة”، لتصبح طاقتها الاستيعابية 100 فتاة.
وتضيف واعتيق أن عدد الطالبات، اللواتي يقطن هذه الدار، يعادل 91 طالبة، من مختلف المستويات، من صفوف الأولى إعدادي إلى صفوف الثانية باكلوريا، توفر لهن الدار المأكل، الذي يُحضر في مطبخ خاص، وفضاء للنوم، وفضاء للدراسة.
وتوضح أن تلميذات الثانوي التأهيلي، جلهن من شعب العلوم الإنسانية، وبعض منهن يسلكن شعبة العلوم التجريبية، بينما من يخرن باقي الشعب يُبعثن إلى مناطق أخرى، فمثلا من تدرس بشعبة العلوم الرياضية تسافر لدمنات، ومن تتابع الشعب التقنية تسافر إلى بني ملال، ومن تتابع دراستها في شعبة الاقتصاد تنتقل إلى أفورار.
تشير واعتيق إلى أن هناك مشاكل اجتماعية عديدة تعاني منها الطالبات، وعلى العموم، فسكان المنطقة متضررون بأكملهم، ولكن مع ذلك، هم يتمتعون بعزة النفس والأنفة، فأغلب الطالبات، حتى وإن كن يعانين الفقر المذقع، لا يتدمرن، ولا يسعين لاستدرار عطف الناس، ومثل هذه المساعدات التي تقدم لهن بالتساوي، تعيد إليهن نوعا من الثقة بأنفسهن.
وتضيف أن غياب الأساتذة الذين يدرسون اللغة الفرنسية، يتسبب في ضعف مستوى التلميذات، ما ينجم عنه صعوبات في دراستهن، ويصعب عليهن مسايرة الدراسة، ويؤدي بالتالي إلى تكريس ظاهرة الهدر المدرسي. وأعطت واعتيق مثالا على ذلك بالحالات التي تضع فيها معلمة حامل وتضطر للتغيب لمدة تتجاوز 3 أشهر، ولا يجري تعويضها، ويضيع التلاميذ في دراستهم.
وتؤكد واعتيق أن هذه الدار تستقبل كل فتاة قادمة من الدواوير، دون شروط، لأنها تعلم ضعف إمكانياتهن.
ينبغي تضافر الجهود لفك العزلة عن هذه المنطقة
يؤكد محمد شوقي، رئيس جماعة “فم الجمعة” أنه ينبغي تضافر الجهود، لإنقاذ هذه المنطقة الذين تجاوز عدد سكانها 14 ألف نسمة، من الأوضاع المزرية التي يعيشها سكانها، بينها الفقر، وهشاشة البنية التحتية، وغياب الأطر الصحية، فهذه المنطقة، التي تشمل 13 دوارا، لا يتوفر فيها سوى على مركز صحي وحيد يفتقر إلى التجهيزات والآليات والأطر الحقيقية، التي من شأنها علاج المرضى.
ويضيف أن الحملات التضامنية وحدها لا تكفي لفك العزلة عن “فم الجمعة”، لأن اليد الواحدة لا تصفق.
تابعت “قافلة النور” مسيرتها إلى مؤسسة تعليمية بدوار “تاجكاكات”، حيث استفادت أزيد من 100 أسرة أي أزيد من 200 فرد، من العديد من الألبسة والأحذية، الخاصة بالرجال والنساء والأطفال، ووشاحات، وملابس رياضية لأطفال ويافعين تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات إلى 18 سنة، إلى جانب العديد من الهدايا، فضلا عن استفادة العديد من الأسر من بعض الخدمات الصحية والأدوية، التي أشرفت عليها أربع طبيبات من تخصصات مختلفة، لم يترددن في تقديم يد المساعدة لسكان المنطقة، وكشفن داخل حجرة دراسية تآكلت جدرانها على مختلف الحالات من أهالي الدوار، ووجدن أن العديد من النساء يعانين من تعفنات مهبلية، وفي بعض الحالات، العقم، في غياب العلاج الفوري والعناية بهن، بينما، هناك من ألمت بهم نزلات برد قوية.
امحمد، أحد سكان الدوار، يقول إن تسمية ” تاجكاكات” تعني بالأمازيغية “عنقود يتدلى”، وربما يعود أصل هذه التسمية، إلى أن سكانها الأصليين كانوا يملكون بعض داليات العنب، وأضاف أن أغلب السكان يعتمدون على “الكسيبة”، أي تربية المواشي، وأيضا، على الفلاحة.
ويتابع امحمد حديثه قائلا “يتحدث أغلب الدواوير، التابعة لفم الجمعة، وبينها هذا الدوار بالأمازيغية، حتى أن الزيجات تتم بين الأمازيغ والعرب بوجود “ترجمان” محلي، يتقن الأمازيغية، ويكون محل ثقة أهل الدوار، يسعى إلى الجمع بين زوجين لا يتحدثان اللغة نفسها”.

