ندوة دولية حول “أثر الثقافة العربية في شبه جزيرة إيبيريا”، أو الأندلس، نظّمتها مجلة “الناشر الأسبوعي” خلال فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب، قال فيها الشاعر المغربي حسن الوزاني إن الوجود الإسلامي بالأندلس في بدايات القرن الثامن الميلادي قد بلغ ذروته في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، “عندما أصبحت الأندلس مركزًا ثقافيًا يشعُّ في جميع أنحاء حوض البحر الأبيض المتوسط.”
وربط الوزاني قوة الأندلس الثقافية بـ”التنوع البشري والديني، واللغوي”، قائلا إنها “عناصر تحتفظ بتداخلها، مشكلةً إطارا عاما لحركية ثقافية غنية، وهو ما فتح الباب أمام تأثير الأندلس على محيطها”؛ فعلى مستوى التركيبة البشرية، “تعايشَ، على سبيل المثال، السكانُ الأصليون من المسيحيين، والعربُ والأمازيغ، والصقالبة، والمستعربون، والموّلَّودُون، واليهود”. وعلى المستوى الديني، “تعايش الإسلام مع المسيحية واليهودية”، وإن كان هذا “لا ينفي وجود جَدل بين ممثلي الأديان”.
هذا التعدّد همَّ أيضا “اللغات المتجلية أساسا في القطب اللاتيني، وفي اللغة العربية، التي صارت لغةَ السلطة ولغةَ الأدب والمعرفة ولغةَ الدين الجديدة، وذلك بالإضافة إلى اللغة المستعربية واللغات الأمازيغية والعبرية والأعجمية الأندلسية”، وهو ما كان من تجلياته “بروزُ اثنين من أشهر المفكرين على مستوى التفكير الكلامي الفلسفي، أحدهما مسلم والآخر يهودي؛ ابن رشد وموسى بن ميمون”، في القرن الثاني عشر.
وذكر الوزاني أن الأندلس شكلت “خلال لحظات طويلة مركزا لما تسميه الباحثة الفرنسية باسكال كازانوفا الرأسمال الأدبي الكوني”، وهو “الرأسمال الذي يحتل في إطاره التأثيرُ الأدبيُّ والفني والفكري مكانةً كبرى. وقد همًّ هذا التأثيرُ المجال الإيبيري ومجموعةً من الدول الأوروبية والفضاءَ الثقافي الأمريكي اللاتيني والعديد من البلدان من خارج هذه الفضاءات.”
أما بالنسبة لـ”التأثير الأدبي”، فذكر المتدخل أن “أحد أهم مظاهر الحوار الأدبي الذي قام بين الأدب الأندلسي والأدب الغربي، التشابه الكبير بين شعر التروبادور الذي كان متداولا باللغة البروفنسالية في جنوب فرنسا وشعر الملحون الذي يُعتبر أحد مقومات الثقافة المغربية العربية الأندلسية، وذلك من حيث المواضيع التي تنحو نحو الشعر الصوفي الإسلامي، أو من حيث التركيب”.
ثم أردف قائلا: “تتركب قصائد التروبادور من قطع (أو أقسام كما يعبر عنها شعراء الملحون)، وكلُّ قطعة تحتوي على أربعة أبيات تضم الثلاثةُ الأولى منها قافيةً واحدةً تختلف من قسم إلى قسم آخر، فيما تتكرر قافيةُ البيت الرابع في أقسام القصيدة، وهو النظام الذي لا يوجد في الشعر اللاتيني.”
كما “امتدت تجلياتُ الحوار إلى أنواع أدبية أخرى، منها أدب الخيال، حيث تُجمع مجموعة من الأدبيات على تأكيد إسهام الأدب الأندلسي في خلق التقاطعات بين القصص العربية والقصص التي انتشرت في أوروبا، ومنها قصص (ألف ليلة وليلة)، التي نجد صداها في نصوص كُتاب إسبان لاحقين، منهم ميغيل دي ثيرفانتيس. ولن يقف تأثيرُ هذا النص هنا، بل سيمتد إلى الآن، وهو الأمر الذي يكشف عنه، بشكل خاص، حضورُه في نصوص الكاتب خورخي لويس بورخيس وغيره. كما يستمر استرجاعُ النص، على مستوى الكون، سواء من خلال مئات الطبعات الكاملة المترجمة (…) أو المختارات، أو الكتب الجميلة، أو الرسوم المتحركة، أو كتب وصفات الطبخ التي تستحضر فنون الطبخ في النص، أو أعمال التحقيق، أو الدراسات.”
وفيما يخص التأثير الفكري، ذكر الوزاني أن “مجموعة من الأدبيات العلمية تُجمع على تأثير الإنتاج الفكري الأندلسي على شبه الجزيرة الإيبيرية وعلى مجموعة من دول أوروبا”، وهو تأثير همّ عددا من المجالات الفكرية، منها المنطق وعلم الكلام، وعلم التصوف، وعلم التاريخ، والفلسفة.
وقدّم المتدخل نموذج “الفلسفة الأندلسية”، وابن رشد الذي “تَعتبره الأدبيات أحدَ أهم فلاسفة الحضارة الإسلامية، وذلك اعتبارا لحجم المشروع الذي أطلقه، ولخصوصية استقبال هذا المشروع في الغرب اللاتيني خلال العصور الوسطى.”
واسترسل شارحا: “شكلت العودةُ إلى المنهج العلمي والتفكير في الموضوعات التي تمثل أصلَ الحداثة أساسَ مشروع ابن رشد، ومنفذ تأثيره على الفلسفة الغربية التي كانت تبحث عن هامش أكبر للفكر العقلاني الحر في سياق مواجهتها للمد اللاهوتي المسيحي. وكان من مظاهر الاهتمام بفكر ابن رشد على مستوى الغرب تدريسُ فكره في عدد من المؤسسات الغربية، منها جامعة باريس، وتراكمُ أعمال الباحثين والمستشرقين التي تناولت أعماله، سواء من باب الانتصار لأفكاره أو مواجهتها، وذلك بالإضافة إلى ترجمة مجموعة من أعماله إلى مختلف اللغات الغربية”.
أما بالنسبة لـ”التأثير الفني” فذكر المحاضر أن فنون الأندلس “تحتفظ بتأثيرها الكبير على مختلف الفضاءات الثقافية الغربية. ويهم ذلك مجالات فن العمارة وفن صناعة المخطوطات والموسيقى وفنون العيش وغيرها من المجالات.”
وزاد: “يشكل فن العمارة أحد النماذج الدالة التي يمكن الوقوف عندها، حيث تَم الحرص على بناء عدد كبير من المساجد والقصور والحصون والمدارس والحمامات والبيمارستانات والمكتبات والحدائق، وكانت كل البنيات بمثابة أعمال فنية بامتياز. وعلى الرغم من تغذيته بتأثيرات مختلفة، إلا أن الفن المعماري العربي الأندلسي سرعان ما ميز نفسه مطورا أسلوبا فريدا من نوعه على مر القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، مع اعتماد خصائص مميزة، مثل قوس حدوة الحصان، والمآذن ذات القاعدة المربعة، والأبراج الكبيرة المربعة أو المستطيلة، والقِباب المضلعة، والتصميمات الزخرفية، والنقش على الخشب، وهي الخصائص التي يظهر أغلبها في قصر الحمراء، الذي يُعتبر تتويجا لثمانية قرون من العمارة الإسلامية.”
هذه الأساليب كيّفها “المسيحيون الذين حازوا السلطة بعد سقوط الأندلس”، وإلى اليوم “لا يزال هذا النمط مرئيًا في العديد من الكنائس وغيرها من البنيات في إسبانيا ومجموعة من دول أوروبا وأمريكا اللاتينية، وهو ما يعكسه، على سبيل المثال، نموذجُ كنيسة سان بيدرو ابوستول الإسبانية، التي يعود تأسيسها إلى القرن الخامس عشر الميلادي والتي تتميز بأبراج مربعة. كما كانت العمارة الإسلامية وراء ظهور الفن المدجن، الذي يطبع تاريخ إسبانيا. ويشكل (…) ثمرةَ ظاهرة التعايش بين الثقافات الثلاث: المسيحية والإسلام واليهودية. (…) وكان له تأثير كبير على العمارة المسيحية والفنون الجميلة، ولا سيما في قشتالة ليون وطليطلة وإشبيلية وأراغون.”
وحول “رهانات وآفاق الحوار العربي الإسباني”، سجل المدير السابق للكتاب بوزارة الثقافة “الإمكانيات التي تمنحها الترجمة على مستوى تسهيل هذا الحوار”؛ فإذا كانت “سوق الترجمة”، على مستوى الفضاءين العربي والإسباني، “قد عرفت تراكما على مستوى ترجمة الأعمال الأدبية والفكرية في الاتجاهين”، فإن “الحاجة إلى حركية أكبر تبدو قائمة، وهي الحركية التي يمكن أن يضمنها ظهورُ أجيال جديدة من المترجمين، ووجودُ بنيات مختصة في الترجمة والتكوين على مستوى الضفتين.”
ثاني الرهانَين، بالنسبة للمتدخل، يرتبط بـ”خصوصيات الاستعراب الإسباني وبما يمكن أن يمنحه على مستوى دراسة الثقافة العربية والتعريف بها”؛ فـ”إذا كان هذا الاستعراب قد ركز، طيلة العقود السابقة، على دراسة الأندلس والعالم العربي خلال القرون الوسطى وفق نظرة نقدية مفرطة، فإن ظهور أجيال جديدة من المستعربين الذين يحتفظون بعلاقة عاشقة مع الثقافة العربية والذين يعتمدون طرق البحث العلمي الحديثة، يمكن أن يفتح أفقا جديدا أمام هذا الاستعراب، وهو ما يعكسه تزايد الاهتمام بمجالات الثقافة العربية المعاصرة، وخصوصا الأدب العربي الحديث.”