Site icon جريدة النهار المغربية – Alnahar

“الغفران الصعب” .. كتاب “الذاكرة والتاريخ والنسيان” والانتخابات الفرنسية

"الغفران الصعب" ..  كتاب "الذاكرة والتاريخ والنسيان" والانتخابات الفرنسية

1

يُعتَبرُ كتاب بول ريكور La mémoire, l’histoire, l’oubli, Paris, Seuil, 2000، الصادر أيضا في طبعة عربية أنجزها جورج زيتاني عن دار الكتاب الجديد سنة 2009، من الكتب الأساسية التي عمّقت النظر في مفاهيم الذاكرة والتاريخ والنسيان من منظور فلسفي وتأويلي وتداولي.

وقد سبق لريكور الاهتمام بفلسفة الذاكرة في كتابه “الزمن والسرد” (1983)، حين بيَّن بعض الحدود التي يمكن للذاكرة أن تقيمها بين الذاكرة المُعاقة والذاكرة المتلاعب بها، والذاكرة الإلزامية؛ فالمعاقة هي التي لا يمكن الوصول إليها بسهولة، وتكون إعاقتها بسبب صدمة أو تجربة مؤلمة، ولذلك فهي تُعاني من تبعات النسيان، ما يجعل إعادة تمَثّل الماضي أمرًا صعبًا، بل مستحيلا. أما المُتلاعب بها، فهي الذاكرة التي تمّ تحريفها بشكل مُتعمّد من خلال الكذب أو التضليل، كل ذلك من أجل تغيير أحداث ماضية لتُناسب رواية معينة دون غيرها. وأخيرا الذاكرة الإلزامية، التي تَفرض نفسها علينا من دون إرادتنا، وتكون ناتجة عن تجربة مؤلمة، فتستبدّ بأفكارنا ومشاعرنا، ويصعب التحرر منها.

ويؤكدُ ريكور أن هذه الأنواع الثلاثة من الذاكرة مترابطة ومتداخلة في ما بينها؛ إذ بإمكان الذاكرة المعاقة أن تُصبح ذاكرة متلاعبا بها إذا حاولنا إعادة بنائها بشكل مُتعمد. والذاكرة المتلاعب بها قد تُصبح إلزامية إذا آمنّا بها وبما يشكله فحواها؛ في حين قد تُصبح الذاكرة الإلزامية ذاكرة معاقة إذا حاولنا قمعها أو نسيانها. والخلاصة أن الذاكرة ليست مجرد تخزين للمعلومات، بل هي عملية دينامية تُشكل هويتنا وتُؤثر على فهمنا للعالم.

2

اعتمد بول ريكور في بيانه لحدود الذاكرة على مفهوم سياسة الذاكرة العادلة، وأساسه اعتبار الاعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات المختلفة مُهِمّا من أجل امتلاك تصوّر لسياسة ذاكرة عادلة تتطلب الاستماع إلى روايات الآخرين وتفهّمها، حتى وإن كانت مختلفة مع ما نؤمن به من معتقدات. ويُبين ريكور أن الاعتراف المتبادل ضروري للمصالحة والتعايش السلمي، ومن هنا قوة ما يسميها أيضا الذاكرة السّردية، التي لا يعتبرها سجلا موضوعيا للماضي، بل عملية دينامية تسمح لنا بتشكيل رواياتنا الخاصة عن الماضي من خلال تذكرنا له وإعادة تفسيره؛ وعلى هذا الأساس يجب أن تكون هناك مساحة لرواية السرديات المتعددة للماضي دون إقصاء أو تهميش لأي منها.

من هنا يبرز سؤال مِحْوري: هل يمكن فصل التذكر عن النسيان؟.

الجواب عن هذا السؤال لن يكون إلا بالنَّفي. لا ينفصل التذكر عن النسيان، فكل منهما يُشكل الآخر، فما نختار تذكُّره يُؤثر على ما نختار نسيانه؛ المهمّ في تحليلات ريكور لسياسة الذاكرة العادلة ضرورة أن نُوازن بعناية بين ما نتذكره وما ننساه، والعناية هنا مسؤولية أخلاقية تجاه ماضٍ علينا – حين تذكره- الاقتراب من فهمه بطريقة عادلة لضمان عدم تكرار الأخطاء التي ارتُكبت سلفا.

يبدو تصور بول ريكور لسياسة الذاكرة العادلة تصوّرا مِثاليا يصعبُ تحقيقه، ومع ذلك فإنه يُقدم خيارا مفيدًا للتفكير في كيفية التعامل مع الماضي بطريقة عادلة في القضايا ذات الصلة بالعدالة والمصالحة، والأمثلة كثيرة في هذا السياق: سياسات العفو الوطنية والدولية، جرائم الإبادة إلخ … إنها ظواهر معقدة تهَدِّد استقرار الدول والمجتمعات؛ على أن تصوّر العدل ضمن خيار سياسة الذاكرة يظل رهينا بفهمنا لفكرة العدالة، وعنها يقول ريكور إنها تُستخلص من بقايا ذكريات الصّدمة لتصبح العدالة شكلا من أشكال التّعلق بالأمل والتطلع نحو المستقبل؛ ذلك أن أي تصوّر للعدل في سياسة الذاكرة يقتضي الاعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات المختلفة لتعزيز المصالحة بينها جراء ما عانته من صراع أو ظلم.

3

ورغم ذلك تبقى هناك العديد من العوامل التي قد تصيب الذاكرة بالهشاشة، يعرض لها ريكور في تحليلاته ويحصرها في ثلاثة عوامل أساسية:

أولها العلاقة بالزمن، اعتبارا لكون الذاكرة دينامية وتتغير باستمرار متأثرة بما نحياه من تجارب، فقد ننسى بعض التفاصيل، أو نُعيد تفسير الأحداث بطريقة مختلفة، ما يُؤثّر على عملية التذكر؛ واعتبارا لكونها – ثانيا – انتقائية فهي لا تحتفظ بجميع التفاصيل، بل تختار ما نرغب في تذكره وتنسى ما لا نرغب فيه. وبما أنها أخيرا قابلة للتأويل فإننا عادة ما نُفسّر ذكرياتنا بحسب معتقداتنا وقيمنا، وفي غالب الأحيان قد تُؤدّي هذه التأويلات إلى تحريف معنى الأحداث أو تزييفها.

ثانيها: النزاع مع الآخر: بحيث يؤدي الصراع على الذاكرة إلى حدوث صراعات سياسية واجتماعية تسعى من خلالها كل جماعة إلى فرض روايتها الخاصة بخصوص أحداث الماضي، ما يُؤدّي إلى تشويه الحقائق. وقد يصل الأمر إلى التلاعب بالذاكرة من خلال نشر المعلومات المُضلّلة أو إثارة الكراهية بين الجماعات، أو تغييبها من خلال محو آثارها أو منعها من التعبير عن روايتها.

ثالثها: العلاقة بميراث العنف، لأنه يمتلك قدرة تشويه الذاكرة وترك آثار عميقة تؤجج مشاعر الخوف والغضب والحزن.

ويستحضر بول ريكور هذه العوامل من أجل التأكيد على أن كل دعوة إلى التذكّر يحفّها الالتباس حين يُفهم منها أنّها دعوة مُوجهة لاختصار الأحداث التاريخية، ولذلك فهو لا يتردد في الإعلان أنه مُنْتبه لمثل هذا الخطر، خصوصا أن كتابه “الذاكرة والتاريخ والنسيان” يمكن اعتباره مرافعة للدفاع عن الذاكرة بما هيَ عموما سجل للتاريخ.

كيف تُشكّل ذكرياتُنا هويتَنا؟ ما الذي يحدث لهويتنا عندما نفقد ذكرياتنا؟ إلى أي مدى تُعدّ ذكرياتنا دقيقة؟ متى يكون التذكر واجبًا؟ هل من الممكن أن نُدرك حقيقةً موضوعيةً للماضي؟ وكيف؟ أم إنّ التاريخ مجرّد رواية ذاتية تشكلها وجهة نظر المؤرّخ؟.

في الخاتمة التي حررها ريكور لمؤلفه “الذاكرة والتاريخ والنسيان”، وعنونها بِـ”الغفران الصَّعب”، بعض عناصر الإجابة عن الأسئلة السالفة. يمثل الغفران الأفق المشترك للذاكرة والتاريخ والنسيان، ذلك أن الإخلاص للماضي ليس معطى، بل هو أمْنِية مثل كل الأمْنيات يمكن أن تصاب بخيبة أملٍ أو بإحباط. بهذا الاعتبار يُقدّم ريكور نظرةً فلسفيةً عميقةً للغفران، بما هو فعل مُعقَّد يتجاوز التسامح والنسيان؛ فالغفران الحقيقي لا ينبعُ من نسيان الماضي، بل من إعادة تفسيره وتقبّله، سواء تعلق الأمر بالغفران العابر، وهو نوعٌ من التسامح السطحيّ ويهدف إلى تجاوز أحداث من الماضي من غير معالجتها بشكلٍ عميق، أو الغفران المُتبادل، الذي يتطلّب حوارًا صادقًا بين الضحية والجاني، بهدف إعادة بناء الثقة بينهما.

يُؤكّد ريكور أنّ الغفران ليس سهلاً، لكنّه ممكن، إنه الحَدُّ الفاصل بين العَفْو وفقدان الذاكرة، فهو شفاء لها من أعطاب الماضي، وسبيلٌ لإنهاء حِدادها.

4 ملاحظة أخيرة

وأنا أعيد قراءة صفحات من كتاب بول ريكور “الذاكرة والتاريخ والنسيان”، محاولا فهم العلاقة بين هذه الثلاثية الفلسفية التي شكلت عماد أحد أهم الأعمال الفكرية في القرن العشرين، كنتُ أتابع بين الحين والآخر الانتخابات التشريعية الفرنسية، وكيف انتقلت نتائجُها في أسبوع واحد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ وما رافق ذلك من حوارات سفسطائية بين الفاعلين السياسيين من كل الأطياف؛ حوارات سفسطائية بالمعنى الأفلاطوني لاعتنائها بتعليم مهارات الخطابة والإقناع بالتركيز على المظهر دون الجوهر؛ فقد كان السفسطائيون يعلّمون طلابهم كيفية استخدام الحجج المنطقية والبلاغة لإقناع الآخرين بوجهة نظرهم، بغض النظر عن صحتها أو أخلاقيتها.

ما علاقة حديثي عن كتاب بول ريكور بالانتخابات التشريعية الفرنسية؟.

إليكم البيان.

عَمِل إيمانويل ماكرون في شبابه مُحررا مساعداً لبول ريكور – رفقة آخرين- أثناء إعداد كتابه “الذاكرة، التاريخ، النسيان”، لذلك خصّه بِشُكر رصَّعَهُ بهذه العبارة: “… وأخيرا إمانويل ماكرون الذي أدين له بنقد صائب للكتابة ولصياغة الجهاز النقدي لهذا المصنف”، مثلما شكر بقية المساعدين الذين صاحبُوه في مشروعه الفكري، خاصة فرانسوا دوس وتيريز دوفلو…

لم يكن الفيلسوف يعلمُ – آنئذ – أن طالبَه سيُصبح أصغر رئيس للجمهورية الفرنسية ضدا على اليسار واليمين معا. تأملت هذه العبارة لريكور التي يبدو فيها الفيلسوف مدينا للسياسي الصّاعد “بنقد صائب للكتابة ولصياغة الجهاز النقدي” لكتابه.
لنتأمل.

وإلى حديث آخر.

Exit mobile version