بعد اختتام فعاليات الدورة التاسعة والعشرين للمعرض الدولي للنشر والكتاب، التي نظمتها وزارة الشباب والثقافة والتواصل بشراكة مع ولاية جهة الرباط-سلا-القنيطرة ومجلس الجهة وجماعة الرباط، لم يغادر ما وُصف بـ”التنظيم الاحترافي” أفق مفكرين وباحثين مغاربة شاركوا في هذه النسخة، التي خلّفت نوعا من الارتياح في الوسط الثقافي المغربي بأن هذا المعرض صار يشقّ طريقه لأن يكون “دوليّا” بكل ما للكلمة من معنى.
ولم تكن جريدة النهار “منعزلة” أمام ما عرفه ملتقى الكتاب من “تطور” منذ نقله إلى الرباط، لكن هذه الدورة الثّالثة، ولو أن بعض الناشرين اشتكوا من “غلاء الأجنحة المخصصة للعرض” واستنكروا أيضاً “دخول الكتاب المقرصن إلى رحابه”، إلا أن هناك ما يشبه الإجماع، الذي “لا يمكن أن يكون إجماعاً”، بأن “نسبة نجاح هذه الدورة عالية، وقد اتسمت بالمعايير الدولية”؛ وهو ما شهدت عليه الجريدة في تصريحات ميدانية لزوار ومسؤولين ثقافيين مغاربة سابقين وكذلك أوروبيين وعرب.
المفكرون المغاربة الذين تبحث جريدة النهار عن تصورهم في هذا الملف الذي يحاول أن يكون “تجميعاً” لبعض وجهات نظر مثقفين أسماؤهم “مرجعيّة” في المشهد الثقافي المغربي، جرى اختيارهم بناء على مشاركتهم في الأنشطة الفكرية للمعرض، بمعنى أن آراءهم يُفترض أن تخرج من “عين” كانت شاهدة، ولها قدرة، من فرط حساسيتها الفكرية، أن تلتقط ما قد يكون بعيداً عن “عين أخرى”، وأيضاً لكونها بحكم تجذرها في الفكر المغربي عايشت “نمو” هذا المعرض منذ بدايته الجنينيّة.
بنعبد العالي: تنظيم ناجح
تدخل جريدة النهار أول ما تدخل إلى “تصور” الفيلسوف المغربي عبد السلام بنعبد العالي، الذي كان في “مرحه” دائماً “الكثير من الجدية”، ليؤكد أن ما لفت انتباهه في معرض هذه السنة هو “الازدحام الذي لوحظ في مختلف أروقة المعرض، وخصوصا في بعض قاعات الندوات التي لم تستطع في بعض الأحيان أن تستوعب الجمهور الذي أقبل عليها. ولا شك أن هذا الإقبال علامة من علامات نجاح هذه الدورة”.
وعبر هذه النقطة وجه عراب “البريكولاج”، في تصريح خصّ به جريدة النهار، رسالة إلى وزارة الثقافة والشباب والتواصل من أجل “العمل في الدورات المقبلة على توفير قاعات قادرة على استيعاب الجمهور الذي يتزايد عدده سنة بعد أخرى”، موردا: “حبذا لو راعى المنظمون، إلى جانب جمالية الفضاءات التي لا شك أنهم يتوفّقون في إتقانها سنة بعد أخرى، قدرتها على استيعاب الزوار بجميع أصنافهم”.
وليس هذا كل ما أثار انتباه الفيلسوف الذي “يُجاور في رأسه الدراسات التراثية والفلسفة الغربية المعاصرة”، مثلما قال الأكاديمي نبيل فازيو، بل دفع إلى الواجهة ما حدث في الدورة من “توسيع لموضوعات الندوات، وكذا الالتفاتة إلى إشراك أسماء صار ظهورها نادرا في الساحة الثقافية”، منتقلا إلى “نقطة أخيرة” أصر على “الإشادة بها”، وهي “ضبط المنظمين للجدول الزمني وحرصهم الدقيق على تطبيق البرنامج المسطر، وكذا إتقان المواكبة الإعلامية للفعاليات جميعها”.
لكل هذه الأسباب، خلص المفكر المغربي الفائز بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، في دورتها الثامنة عشرة منذ أسابيع، إلى أنه “لن يكون من قبيل المبالغة أن نذهب إلى القول إن الساهرين على المعرض قد أبانوا هذه السنة عن احترافية عالية”.
أفاية: الحضور العالمي والترجمة
المفكر نور الدين أفاية، عضو أكاديمية المملكة المغربية، قال: “على سبيل المعاينة، وانطلاقا من السنة الفائتة، اتخذ المعرض الدولي للكتاب في الرباط أشكالا جديدة، وأنماطا مستجدّة في التنظيم، واختيارات في التصور العام الذي مُنح للتظاهرة”، سواء من حيث توسيع دائرة العارضين العرب وغير العرب، مع أن هناك بعض النقص فيما يتعلق بالحضور العالمي غير العربي في التظاهرة.
وحسب الأكاديمي ذاته، فـ”إن كان المعرض انطلاقا من السنة الفائتة انفتح على المجال الإفريقي، فنحن في المغرب بحاجة إلى أن ينفتح على جغرافيات ثقافية وإبداعية عالمية، سواء على مستوى أمريكا اللاتينية أو آسيا وغيرها”، مسجلا في السياق نفسه أن المستجدات عموما هذه السنة “تعززت باختيارات تنشيطية ثقافية جديدة. والظاهر أن هذا ما تكرسه الدورة 29، تعضّد التصور الذي انطلق السنة الفائتة، ويمكن أن نعاين ذلك انطلاقا من البرنامج الثقافي المسطر”.
أفاية وهو يعرض رأيه في الدورة لجريدة النهار، أشار إلى الاهتمام الذي حدث بـ”قضايا إنسانية كبرى وطرحها للنقاش وللعرض وللحوار، فضلا عن القضايا الإبداعية الأساسية في مختلف حقول الإبداع، سواء تعلق الأمر بالرواية أو الشعر أو القصة أو السينما التي تحضر للمرة الثانية في ندوات وفي جلسات وفي توقيعات كتب، وكذلك الموسيقى، خصوصا الملحون وغيره”.
ومضى المتحدث قائلا: “المتجول في المعرض يجد أن الكتب عُرضت بطريقة معقولة جدا ومثيرة للانتباه والفضول، وبدا الكتاب ليس كمجرد شيء معروض، وإنما كأفق لاكتشاف معارف جديدة وجغرافيات جديدة وأفكار جديدة”، مشددا على أهمية ذكر التعاطي الذي حدث أيضا مع إشكالات مطروحة اليوم من قبيل “كونية القيم وأدوار الأمم المتحدة، وعلاقة الجنوب وصعوده ودوره على مستوى التوازنات الدولية والاختلالات الدولية الكبرى التي يعيشها العالم”.
وأشار أفاية إلى “إدراج قضايا الترجمة، التي تعد اليوم موضوعا رئيسيا بالنسبة للمغرب، لأن هناك خصاصا حقيقيا يتعلق بالترجمة في بلادنا، والظاهر أنه على المغرب انطلاقا من هذه الدورة أن ينتقل من الحديث عن الترجمة إلى الترجمات، وأن يتجاوز الخطابات المكرورة حول الترجمة وفكرها، ومن ثم الدخول في مشاريع ترجميّة فعلية للكتب التي تحتاجها الثقافة المغربية والبحث العلمي في المغرب”.
بنكراد: التقليص من المؤسسات
عالم السيميائيات سعيد بنكراد قال إن المعرض في لم يبدأ في الرباط محتشما كما يعتقد البعض، بل انطلق منذ دورته الأولى باحترافية كبيرة، وحدها العادة جعلت الناس ينظرون بريبة أو باحتياط إلى هذه التجربة الجديدة. وكانت الدورة الثانية بقوة الدورة الأولى نفسها، وعرفت إقبالا كبيرا، كما كشفت عن ذلك الإحصائيات. واليوم نصل إلى الدورة الثالثة ليؤكد المعرض أنه أصبح حقيقة في الرباط، جزءا من الوجه الثقافي للعاصمة، لقد زادها إشعاعا وهي بالفعل مدينة الأنوار والثقافة.
وبعدما شدد بنكراد، في تصوره الذي تقاسمه مع جريدة النهار، على أنه “ينظر إلى المشهد من خارجه”، أكد أنه “لا يمكن للعين المحايدة ألا تدرك ما يتميز به هذا المعرض في فضائه الجديد. فالتنظيم جيد على جميع المستويات، على مستوى الاستقبال وعلى مستوى توزيع فضاء العرض، وعلى مستوى عرض البضاعة، الكتب. وعلى مستوى النظافة، وعلى مستوى الإدارة الداخلية للأنشطة الثقافية، لقد تمكن القائمون على المعرض من تدبير الزمن والفضاء بشكل احترافي”.
ولم يستفرد المتحدث بهذا الموقف، مادام أن “الأمر يؤكّده كثير من الزوار ويؤكده الناشرون أنفسهم، فقد تقلصت أعمال السرقة إلى نسبة كبيرة، والمبيعات في تزايد مطرد، وعدد الزوار يتزايد باستمرار، وهم بالإضافة إلى ذلك نوعيون”، لكنه مع ذلك أوصى بـ”التقليص من المساحات المخصصة للمؤسسات، والسماح لأكبر عدد من الناشرين بعرض منتجاتهم، والتنويع في المتدخلين لإتاحة الفرصة لأكبر عدد من المثقفين والكتاب للتعريف بإبداعاتهم وبأنفسهم”.
وعلى الرغم من أن الرجل تمكن من تقديم كتابه الجديد “السرد الديني والتجربة الوجودية”، فقد كان “مناصراً” لمن غاب صوته، من خلال قوله: “لست مع إقصاء أي أحد، ولكن لست مع استفراد البعض بأكبر حصة من الحضور في المعرض. فهناك كثير من الكتاب الذين لم تتح لهم فرصة التعريف بأنفسهم”، وزاد: “بعض قاعات النشاط الثقافي صغيرة جدا، مما يؤدي أحيانا إلى التشويش على العارضين”، واقترح تخصيص مساحة لبناء معرضٍ يمكن استعماله في تقديم منتجات أخرى غير الكتب.
أوريد: معرض للأفكار
المفكر والكاتب والروائي حسن أوريد قال وهو يقدم وجهة نظره لجريدة النهار: “حقيقة حضرت الدورة الثالثة بالرباط، وهي متميزة عن الدورتين؛ ثمّة نوع من الاحترافية التي جعلتنا ننتقل من معرض للكتب إلى معرض للأفكار”، مشددا على أن “هذا شيء مهم أن نثيره، لكونه أمرا تتحدث عنه شهادة كثير من الناشرين الذين يترددون على المعرض”، وزاد: “بدوري، زرت بعضا من المعارض على الأقل في العالم العربي، ولئن كان معرض الرباط لا يرقى من حيث الحجم إلى معرض القاهرة أو الرياض، فهو يتميز بالنّوعية”.
وعدّ أوريد الملتقى سائرا في طريق أن “يصبح إحدى المحطات الكبرى الثقافية في العالم العربي”، مؤكدا أننا “انتقلنا حقيقة من أكبر إلى أجمل وإلى أحسن، ولهذا نريد من الدورة الرابعة التي ستنعقد في الرباط أن تكون أفضل”، واقترح في سبيل ذلك أن تمنح الجهة المنظمة حيزا لفتح مجالات الحوار والنقاشات في الفضاءات الثقافية في العاصمة، مثل “شالة” و”الوداية”، وتخصيص حيز لما يسمى المهنيين؛ فكما يجري دائما في كل المنتديات يمكن تخصيص وقت معين أو يوم مثلا لبعض المختصين من الكُتّاب والناشرين، إلخ.
وسجل المفكر المغربي أنه “استمع إلى شهادات كلها تثني على هذا المعرض الذي حقيقة الآن يمكن أن يقال عنه إنه معرض دولي”، مؤكدا: “عالميا، لا نستطيع أن نقارنه، وهو حقيقة يدخل في طور الاحتراف، بمعرض فرانكفورت أو باريس، ولكنه صار دوليا صراحة”، داعيا في ختام كلمته إلى منحه المزيد من الإشعاع من خلال إضافة ما يسمى فقرات “ما بعد المعرض”، يعني تنظيم احتفالات، لأنه لحظة احتفائيّة محورية بالثقافة والتراث.
وفي الختام، وبعد الاستماع إلى هذه الشهادات والمقترحات، يمكن استدعاء “حصيلة” وزارة المهدي بنسعيد التي أكدت أن الدورة الـ29 من المعرض شكلت “محطة جديدة في مسار هذا الحدث الثقافي الكبير الذي يبرهن في كل دورة على قيمة وجدوى الجهد المبذول من أجل جعل الكتاب قريبا من المواطنين، مثلما يبرهن على الوفاء الذي يعبر عنه جمهور المعرض، وهو الأمر الذي أثبتته الأعداد الغفيرة التي حجت إلى فضاء المعرض، والتي تجاوزت 316 ألف زائر، بارتفاع نسبته 32 في المائة”.
