قصة آخر ممتهن لعمل “الرقّاص” بالمغرب، أي ساعي البريد بالمملكة في زمن ما قبل البريد العصري، يحكيها ابنُه عالم الإناسة عمر بوم، الذي يدرّس بالجامعة الأمريكية، والذي عيّن مؤخرا عضوا بأكاديمية المملكة المغربية.
وجاء تقديم أحدث كتب الأنثروبولوجي عمر بوم خلال لقاء نظمه مجلس الجالية المغربية بالخارج، الجمعة، بالمعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته 29، وسيره عالم الأنثروبولوجيا المغربي أحمد سكونتي الخبير لدى منظمة “اليونسكو”.
وقال بوم إنه أستاذ وباحث محب للبحث، “لكن الجامعات في المغرب والولايات توجد في أزمة، خاصة في ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانيات؛ وهي أزمة كيف يمكن الحديث مع الرأي العام أو الجمهور، فنحن في فقاعتنا، بين جدران تحيطنا، وينبغي أن نقوم بما هو أفضل لنقل أبحاثنا الجيدة إلى طرفين: التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، والجمهور العام”. وأوضح أن هذا الكتاب الجديد يستطيع تحقيق هذا الهدف لأن المشكل ليس هو وجود القراء من عدمه، بل “كيف نترجم أبحاثا مهمة لمجتمعنا والمجتمعات الإنسانية لجيل له اهتمامات أخرى مثل الهاتف، دون أن يعني هذا أنهم لا يريدون القراءة إذا اشتغلنا معهم”.
وذكر بوم أن ملهمه للاهتمام بهذا التاريخ العائلي هو المؤرخ والفقيه والوزير المختار السوسي، قائلا: “هو المعلم والشيخ وأنا مريده؛ لم يكن فقط وزيرا ورجل دولة، بل مثقفا أعطى للتاريخ بالمغرب الكثير عبر كتب نشرها بماله الخاص”. واستشهد بمقطع من كتابه “من أفواه الرجال”، الذي بيّن فيه أنه إذا كان التأريخ يتمّ فقط للأجانب عن المؤرخ، وإن كان في ذلك فضل لا ينكر، فإن نسيان فضل الأسرة بعدم تدوينه، سيترك في التاريخ نواقص لا يغطيها أحد لـ”جيل كاد ينقرض”.
وتابع قائلا: “مقاربة اشتغالي على هذا الكتاب حول أبي الرّقّاص كانت من موقع الاهتمام بتاريخ شخص عادي، من هوامش جنوب المغرب، من أجل تاريخ شامل”، وهو ما غذّته حوارات متعددة مع أبيه الراحل، وأرشيفات، ومعطيات بحثية حول ورزازات وطاطا، بعث الروح فيها تساؤل لابنته حول الكتابة عن جدها المعمِّر.
هذا المغربي الذي كان رقّاصا، ممتهنا لمهنة تتطلب تحلّيه بثقة الناس، وقدرته على المشي الطويل، والصحة الجيدة، والقدرة على الوصول في وقت مضبوط، انتهت مهنته مع أول قدوم لحافلة “ستيام” إلى فم زكيد (إقليم طاطا)، ويشهد أيضا على مراحل مهمة في تاريخ العائلة والمغرب والعالم مثل الحرب العالمية الثانية، وهي شهادات وأحداث شخصية “وضعها عمر بوم في سياقها من أجل تقديم تاريخ شامل وعالمي”.
ومن بين ما قاله بوم في لحظة بوح خلال اللقاء: “لا حرج لدي، أنا من أنا، ابن رقاص، حرطاني (أي أسود البشرة) من فم زكيد، أخُ الكثير من إخواني الذين اشتغلوا في الحمام العمومي “كسّالة”، من منطقة هُمّشت تعليميا واقتصاديا أيضا، وأحب المغرب كثيرا، لا من منطلق شوفيني، لذا علي قول الجيد والسيئ، وفي هذا الكتاب أقوم بالمستحيل لأكون موضوعيا قدر استطاعتي، ونموذجي المختار السوسي في التحليل، وفي كون الشخصيِّ مهم جدا لإضاءة العام”.
وأوضح أن “هذه الإثنوغرافيا الذاتية نوع من التداوي بالنسبة لي”، وهي “فكرة ليست لنا بالمغرب، وتعلمتها في أمريكا؛ فالطابوهات مهمة جدا، وتساعدنا على معرفة المركزي في مجتمعنا وفهم ذواتنا، وأحاول أن أتبع هذه المقاربة، مع كوني أخلاقيا، لا أتحدث عن أمور تحدث قطائع في المجتمع (…) بل أتحدث باحترام واهتمام بالسلام المجتمعي؛ هذه بوصلتي”.