في عام 2016 ظهر التطبيق الصيني تيك توك الذي أحدث ثورة في عالم الإبداع والترفيه على مستوى منصات التواصل الاجتماعي، حيث مكن المستخدمين من جميع أنحاء العالم من مشاركة مقاطع فيديو قصيرة تتنوع بين الرقص والموسيقى والتحديات ومحتوى الفكاهة، كما وفر التطبيق خاصية التواصل المباشر مع المتصفحين، لكن مع الانتشار الرهيب لتيك توك وتزايد شعبيته مجاوزا بذلك عتبة المليار مستخدم نشط شهريا في أزيد من 150 دولة، برزت ظواهر غريبة ومثيرة للجدل وبدأ النشطاء يلجأون لممارسات غير مألوفة وحاطة بكرامة الإنسان بهدف تحقيق أرباح خيالية عن طريق الميزات التي توفرها المنصة.
ولم يكن مستخدمو التيك توك المغاربة، الذين يتجاوز عددهم 6 ملايين مستخدم، في منأى عن هذا التوجه المنافي للأخلاق الذي بات ملجأ العديد من “صناع المحتوى” لجذب انتباه المشاهدين وتعزيز التفاعل وجني المال بأسرع طريقة دون الاهتمام بطبيعة المحتوى المقدم ما إن كان يليق بنشره ومشاهدته من قبل رواد الفضاء الأزرق أم لا.
ظاهرة التكبيس وجولات التحدي وتنفيذ الأحكام
يعد تطبيق التيك توك من أبسط الوسائل المتاحة على مستوى المنصات الرقمية لتحقيق الأرباح المالية، وأصبح استخدامه لهذا الغرض شائعا جدا في الفترة الأخيرة بفضل ميزة التكبيس، وهو النقر المستمر على الشاشة خلال البث المباشر بهدف زيادة التفاعل والرفع من عدد المتابعين، وعند الوصول إلى ألف متابع يمكن للمستخدم تلقي الهدايا والمكافآت من الداعمين وهي عبارة عن عملات افتراضية يمكن تحويلها إلى نقود حقيقية عند نهاية البث، حيث يقوم الداعمون بشراء العملات من التطبيق مقابل مبلغ مالي يبدأ من 1 دولار لكل 100 عملة، ويرسلونها على شكل عملات معدنية أو هدايا إلى المستخدم الذي يتابعونه بهدف دعمه خلال البث المباشر.
من بين هذه الهدايا يوجد رمز الأسد، الذي يساوي 29999 عملة افتراضية ويصل سعره بالعملة الحقيقية لـ 300 دولار أمريكي أو أكثر قليلا حسب المنطقة التي يشحن منها الداعم هذا الرمز، ولا يحصل صاحب البث المباشر في حال توصله بالأسد سوى بـ 150 دولارا أي نصف سعر الهدية حيث يختصم تطبيق التيك توك النصف المتبقي كنصيب لحصته.
ولتعزيز تفاعل المتابعين، وفرت المنصة ميزة “جولات التحدي” حيث يمكن لشخصين دخول بث مشترك وبدء المنافسة ومن يحصل على أكبر عدد من العملات التي يرسلها المتابعون/الداعمون يفوز بالجولة، غير أن هذه الجولات تتحول إلى ساحات للسب والقذف والتسول واستغلال المتابعين باستدرار عواطفهم، حيث يلجأ المتبارزون إلى تبني ممارسات غريبة كإظهار الاستياء والتوسل والبكاء والقيام بسلوكات مخلة بالحياء من أجل تحفيز المتابعين لإرسال الهدايا والعملات من أجل مساعدتهم على ربح الجولة، لأن من يخسرها سيتم تنفيذ الحكم عليه والذي غالبا ما يتجاوز حدود العقلانية والأخلاق، ويتسم بالإهانة والعنف وقد يهدد السلامة الجسدية للمحكوم عليه، حيث تجد نفسك أمام مشاهد تثير الغثيان والاشمئزاز وتشجع على الانحطاط وانحلال القيم.
ومن بين الأحكام التي تلقى رواجا في منصة التيك توك ويتم تنفيذها من طرف المحكوم عليهم من المستخدمين، تقليد الحيوانات أو إصدار أصوات غريبة أو تناول مواد خطرة وغير صالحة للأكل أو تلطيخ الوجه والجسد بأشياء مقززة أو خلع بعض من الملابس والاستلقاء أرضا والرقص بطريقة يندى لها الجبين أو الاغتسال بالماء البارد في ظروف تنعدم فيها الكرامة، كل هذه الأفعال يتم تنفيذها مباشرة خلال البث الحي مع استعطاف المتابعين وابتزازهم لتقديم مزيد من الهدايا.
تصاعد انتشار المحتويات التافهة ومطالب بحظر التيك توك
لم تعد المحتويات التي تتضمن ما يصنع من تفاهة وانحطاط أخلاقي تقتصر على عالم التيك توك، بل يتم تسجيلها وتحميلها عبر الوسائط الرقمية الأخرى، ما ساهم في غزوها لمواقع التواصل الاجتماعي وانتشارها بين رواد الفضاء الأزرق، حيث يعمل بعض النشطاء على الترويج لهذه المحتويات بهدف جذب أكبر عدد من المتابعين والاستحواذ على التفاعل في بيئة تنافسية لا تحتكم لأي اعتبارات أو قوانين، لكن مع تصاعد القلق حول المحتويات التي يتم تداولها على المنصة المذكورة وتأثيراتها على الأطفال والمراهقين، تزايد الضغط لفرض قيود على التيك توك بالمغرب وحتى المطالبة بحظره نظرا للمخاطر النفسية والاجتماعية المرتبطة بتداول الأطفال والمراهقين لمحتوياته وأيضا لتعارضه مع قيم وأخلاق المجتمع المغربي.
وفي هذا السياق، يرى بعض المطالبين بحظر تيك توك أن المحتوى المروج في هذه المنصة يشجع على السلوكيات الشاذة والتي لا تتلاءم مع الهوية الثقافية والقيم الاجتماعية في المغرب، كما ينذر بتبعات وخيمة على أذهان وأفكار الأجيال الناشئة، بينما يعارض آخرون الفكرة بدعوى الحق في ممارسة حرية التعبير والوصول إلى المعلومات، ويعتبرون أن الحل الأمثل هو مراقبة المحتوى وتطبيق سياسات صارمة لمنع المحتوى المخل بالأخلاق والقيم ومعاقبة المسيئين.
ولم يبق البرلمان بمعزل عن النقاش المثار حول تطبيق التيك توك، حيث نبهت النائبة البرلمانية عن حزب الأصالة والمعاصرة، حنان أتركين، في سؤال وجهته لوزيرة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، غيثة مزور، حول حماية مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي من تأثيراتها السلبية خاصة بالنسبة للقاصرين، أن العديد من الدول قامت بحظر بعض التطبيقات ذات الأثر السلبي البالغ ونظمت الولوج إلى الفضاء الأزرق وقيدت استعمال القاصرين لهذه التطبيقات.
وأشارت أتركين إلى أن هناك العديد من التطبيقات تتنافس على استقطاب جمهور أوسع بممارسات وسلوكات “مجرمة” بمقتضى القوانين السارية، لكنها تنفلت من الرقابة لارتكابها في الفضاء الأزرق، الذي يعرف انتشار ظواهر التسول والتحرش والاتجار غير المشروع وتقديم الاستشارات الطبية بشكل غير قانوني، موضحة أن هذه الممارسات لها إطار قانوني ضابط إذا ما تم ارتكابها في الفضاء الواقعي، لكنها تصبح خارج دائرة المحاسبة وسلطة القانون حين تتم في فضاء افتراضي، داعية في هذا الصدد، إلى حماية القاصرين وتطبيق العقوبات القانونية في حق مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي ممن ثبت ارتكابهم لمخالفات يعاقب عليها القانون.
من جهته، طرح النائب البرلماني عن حزب الحركة الشعبية، نبيل الدخش، سؤالا كتابيا لوزير الشباب والثقافة والاتصال، محمد مهدي بنسعيد، يدعو فيه إلى تقنين استخدام البرامج الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي ومن بينها منصة تيك توك، محذرا من مخاطرها الاجتماعية والصحية وانعكاساتها النفسية والمعرفية على مستخدميها خاصة الأطفال والمراهقين، وأشار إلى أن استخدام تيك توك شهد ارتفاعا قي الآونة الأخيرة إلى جانب تطبيقات أخرى، مما دفع بالعديد من الدول إما لتقنين استخدامها أو منعه نهائيا، حماية للأجيال الصاعدة والشباب والمواطنين الذين أدمنوا على الولوج إليها.
من روتيني اليومي إلى التكبيس.. وجهان لعملة واحدة كسب المال بأسرع طريقة
بات تطبيق التيك توك يزخر بمجموعة من الفيديوهات واللايفات عن طريق “التكبيس”، وهي ظاهرة جديدة على الويب المغربي بحيث أصبحت هذه المنصة تعد مسرحا للتفاهات وصناعة شخصيات ليس لها أي دور اجتماعي في بنيات وأنساق المجتمع، يقول كريم تباع، الباحث في علم الاجتماع، مبرزا أن الظواهر الافتراضية ما هي إلا صورة أصلية لما يوجد في الواقع، فالواقع المغربي يزخر بمجموعة من الظواهر، والجديد هنا هو الوسائل الحديثة التي طورت من هذه الظواهر وجعلتها رقمية وأصبحت في حلة جديدة وأصبحت مرئية بدلا من غير مرئية التي كانت سابقا تمارس في السر وبطريقة محتشمة.
وحول أسباب بروز هذه الظواهر الرقمية، أوضح تباع أن العامل المادي الذي يتمثل في الربح السريع، والذي تقدمه هذه المنصات هو ما يجعل من نسبة مهمة من المجتمع تسعى وراء هذا التطبيق لجني المال بكل الطرق، معتقدين أنه سينتابهم الندم إذا لم يستغلوا الفرصة التي أمامهم، ولكي يتمكنوا من تحقيق الربح منها، يحتاجون إلى إنشاء محتوى تافه جذاب وليس بالضرورة أن يكون مفيدا، ويعتمد على المواضيع المثير للجدل كالجنس أو الفضائح أو الضحك والفكاهة أو العلاقات الغرامية أو الطابوهات أو التحديات…
وأضاف تباع في تحليله لهذه ظاهرة أن مستخدمي المنصات الإلكترونية لكي يحافظوا على وجودهم وزيادة توسعهم في هذا العالم يحتاجون إلى أن يكونوا متفاعلين مع جمهورهم وأن يبنوا معهم علاقة قوية من خلال المحتوى الذي يقدمونه وشخصيتهم الاجتماعية، حيث غالبا ما نجد هؤلاء الأشخاص اكتسبوا الشهرة من خلال فضيحة أو فعل جنوني اقترفوه أوصلهم إلى قائمة الأكثر مشاهدة على المنصات الرقمية مما سهل عملية الاستجابة أن تكون نسبتها عالية ويتم نشره على نطاق أوسع.
وبالعودة إلى المحتويات التافهة وغير اللائقة عبر منصة تيك توك، يفيد تباع في حديثه لـ”الصحراء المغربية”، أنها كانت موجودة في السابق مع منصة اليوتيوب لكن بنمط مختلف عن سياق منصة تيك توك، حيث كان من قبل “روتيني اليومي” أما اليوم أصبح “تكبيس”، لكنهما يصبان في اتجاه واحد وهو الجنس أو التفاهة مقابل جني المال بطرق سريعة وسهلة، حتى أصبح مجموعة من التيكتوكرز النشطين ينتجون محتويات لا أخلاقية وهو ما قد يؤدي إلى زعزعة نسق المجتمع بسبب مجموعة من المشاكل.
وأكد تباع أن محتوى التيك توك مقارنة بالمنصات الأخرى مليء بالمخاطر والتأثيرات على الأطفال والمراهقين أكثر بالنظر إلى الشعبية التي يتمتع بها عند هذه الفئة العمرية وطبيعة الظواهر الموجودة هناك، وخاصة مع موجة “كبس كبس” والتحديات الخطيرة التي اجتاحت المنصة مؤخرا، وهو ما يخلق اضطرابات سيكولوجية في حياة الأطفال خاصة وفي المجتمع بصفة عامة، وتابع أن محاولة جذب انتباه المتابعين قد تؤدي إلى نشر محتوى غير مناسب ومخل بالشرف، ما قد يتسبب في إزعاج أو إيذاء قيم المجتمع.
وفي هذا الجانب، حذر من عدم مراقبة الأسر لأطفالها في استخدام تطبيق تيكتوك أو السماح لهم بدخوله بمفردهم، معتبرا مشاركة بعض الأسر أطفالهم في خلق محتوى ذي طابع جنسي أو محتوى تافه على المنصة أمرا خطيرا، خاصة بالنسبة لفئة الأمهات باعتبارهن رمز الأسرة، كما يتسبب التيك توك أيضا في تعريض الأطفال للاستغلال الجنسي من قبل الأشخاص المنحرفين الذين يستغلون ميزات المتاحة على التطبيقات للتقرب أو استغلال الأطفال، أيضا هناك من يقوم بإيذاء وتعذيب نفسه بحيث أصبحت مقاطع الفيديو الخطرة، والرقص أمام القطارات أو السيارات أو القيام بمهمات صعبة والتعذيب لإظهار النفس وزيادة المتابعين والربح السريع وما إلى ذلك، ما يزيد نسبيا من مستوى العنف والجريمة في المجتمع، كما يتم تداول ظواهر نفسية خطيرة مثل النرجسية وحب ظهور الذات، حيث يعتقد الكثير من الناس أن اللقطات التي يصورونها تجعلهم يبدون جذابين في أعين الناس، على الرغم من أنها غالباً ما تكون ضارة بهم.
وقال كريم تباع أن المستخدمين يميلون إلى مقارنة بعضهم البعض من حيث المحتوى الذي ينشرونه، حيث يسعى كل مستخدم إلى إنتاج محتوى أفضل من محتوى المستخدمين الآخرين، ويشمل ذلك أيضًا المحتوى التافه، فكلما كان المحتوى أكثر تفاهة، زادت فرص جذب انتباه المستخدمين وتحقيق الربح، فضلا عن مضيعة الوقت بسبب مشاهدة العديد من الفيديوهات بدون فائدة والتي غالبا ما تتضمن ألفاظا نابية وخادشة للحياء.
ويرى السوسيولوجي أن ما وصل إليه تيك توك من ظواهر يستدعي التنبه واتخاذ تدابير صارمة لتقنين استعمالات المنصات الرقمية، بما فيها تطبيق تيك توك ومراقبة الأرباح التي تدرها هذه المنصة، والاستفادة من التجارب السابقة التي نجحت في هذا الاتجاه، حيث قامت بعض الدول بحجب هذا التطبيق الذي أصبح يهدد سلامة كيانها، لأنه لا يحمي المستخدم ويخترق خصوصيته.
أسماء إزواون
