عادت المواجهات المتسمة بمنسوب عنف قوي بين مجموعات وفصائل “الألتراس” المتنازعة إلى واجهة الأحداث، بعدما وصلت حد استهداف العناصر الأمنية بالدار البيضاء بالشهب النارية عقب تدخل الأمن لفض نزاعات بالهراوات والأسلحة البيضاء اندلعت بين عناصر من فصائل مشجعة لنادي الوداد الرياضي وأخرى مناصرة لغريمه التقليدي الرجاء، وذلك قبل يومين فقط من مباراة الديربي التي لعبت مساء أمس الأربعاء بمدينة المحمدية.
فرقة الشرطة القضائية بمنطقة أمن سيدي البرنوصي بالدار البيضاء سارعت إلى فتح “بحث قضائي تحت إشراف النيابة العامة المختصة، لتحديد ظروف وملابسات إقدام مجموعة من المحسوبين على فصائل إلترات المشجعين على عدم الامتثال وتعريض سلامة المواطنين وموظفي الشرطة لتهديد خطير بواسطة أسلحة بيضاء وشهب نارية”.
عودة هذه المواجهات، التي تحيل على توصيف “حرب الألتراس” واستمرار “الشغب الرياضي” عموما، للتواتر في الآونة الأخيرة، يطرح تساؤل نجاعة تأطير هذه الفئة من الشباب واليافعين المراهقين من المهووسين بتشجيع فرق كرة القدم بالمغرب، وكذا التداعيات التي قد تنجم عن اعتماد “المقاربة الواحدة” فقط في هذا الصدد.
مسار الأحداث
مصادر جريدة النهار أعادت سرد الأحداث، موردة أن “دورية للشرطة كانت قد تدخلت لمنع اصطدام عنيف بين مجموعتين متنافستين من فصائل إلترات المشجعين بمنطقة البرنوصي بمدينة الدار البيضاء، غير أن مجموعة منهم رفضت الامتثال وحاول أحد أفرادها الاعتداء على موظفي الشرطة باستعمال الشهب النارية، قبل أن يتم ضبطه ويحاول مرافقوه تعنيف عناصر الشرطة لمقاومة عملية التوقيف”، وهو ما “اضطر ضابط أمن إلى استعمال سلاحه الوظيفي وإطلاق عيارات نارية عديدة مكنت من إعادة فرض النظام بعين المكان”.
وأضافت المصادر ذاتها أن “الاستعمال الاضطراري للسلاح الوظيفي مكن من تحييد الخطر الناتج عن المشتبه فيهم وتوقيف 9 من بينهم، كما أسفر عن إصابة اثنين من المشتبه فيهم ومقدم شرطة من عناصر الدورية بشظايا عيارات نارية على مستوى الأطراف العليا”.
في اليوم التالي للواقعة (ليل الاثنين-الثلاثاء)، تناسلت على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لشهود عيان بثوا فيديوهات تظهر عناصر، قدر عددهم بأكثر من 300، من “الألتراس” الوداديين مقابل نظرائهم الرجاويين وهم يطاردون بعضهم بعضا في أحد شوارع حي سيدي البرنوصي.
رغم الجهود المبذولة، منذ سنوات، لتأمين المباريات الرياضية ومكافحة مظاهر الشغب المرتبط بالتباري الرياضي، إلا أن مظاهر العنف والشغب في الملاعب المغربية وعلى هامش المباريات عادت بقوة لتبصم هذه المرة أكبر المدن المغربية في أول يوم من العام الجديد، خاصة مع “تورط قاصرين وملثمين بأقنعة سوداء”.
أسباب مركبة
عبد الرحيم بورقية، باحث متتبع لتاريخ وتطور حركية “الألتراس”، قال إن “أسباب الشغب والعنف المرتبط بكرة القدم ومشجعيها، متعددة ومركبة ومتداخلة فيما بينها”، متوقفا عند أبرزها في تقديره، “المتعلق بالهويات الجماعية للألتراس وأنشطتها التي تنتجه، ومنها ما يتعلق بالأفراد كمكون أساسي لهذه المجموعات”.
وزاد بورقية في إفادات تحليلية لجريدة النهار: “هنا نطرح السؤال عن هؤلاء/هذا الفرد كمنتوج اجتماعي تلقى تنشئة اجتماعية من طرف فاعلين اجتماعيين (أسرة مغربية ومدرسة مغربية، ومر عبر/أو التقى فاعلين آخرين (أثروا سلبا أو إيجابا) في الحي، وبالمقهى، في الشوارع ودور الشباب والنوادي والملاعب…”، ليخلص: “ما نراه ما هو إلا مرآة مجتمع ومنظومة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ورياضية في مغربنا”.
“هذا ما سبق التطرق له سابقا كأرضية لما وقع الاثنين الماضي وما وقع سابقا ومن المتوقع حدوثه مستقبلا لتواجد الفاعلين الأساسيين أنفسهم والملابسات والظروف ذاتها مع تغيير انطلاق الشرارة الأولى وبعض ما يطرأ في الأسلوب”، يرصد بورقية، مسجلا أن “أحداث الإثنين البرنوصي” هي “مشادات وشجار بين فصائل إلترات المشجعين وعدم امتثالهم للعناصر الأمنية وتعريضهم والمواطنين لتهديد خطير بواسطة أسلحة بيضاء وشهب نارية. وهنا نطرح السؤال عما حدث ودلالة التوقيت قبل الديربي البيضاوي المنتظر بفارغ الصبر من المتتبعين داخل وخارج الوطن”.
واعتبر الأستاذ في معهد علوم الرياضة بسطات أن “عناصر الشرطة لم تؤد إلا واجَها اللازم في حماية المواطنين عقب تدخلها لمنع مناوشات واصطدام عنيف بين مجموعتين متنافستين من فصائل إلترات المشجعين بمنطقة البرنوصي، وهو دور الأمن الفعال في هذه المناسبات”، مفسرا: “لأن العنف الرمزي من ملاسنات وعنف لفظي متبادل ممكن أن يؤدي إلى عنف جسدي، اضطر ضابط الأمن لاستعمال سلاحه الوظيفي”.
“عشق بالعنف”
يرى المختص في قضايا الألتراس (مؤلف كتاب “Des Ultras dans la ville”) فيما جرى “حلقة جديدة من شريط عشق فريق ومجموعة مشجعين يتحول إلى عنف متبادل واعتداءات”، مؤكدا “اندراج الأمر في عالم الالتراس وأنشطتهم التي لا تنبذ استعمال العنف ضد المنافسين أو أي رمز من رموز السلطة”. وقال: “بغض النظر عن حيثيات وملابسات الانتقال من العنف اللفظي والرمزي، دائما وارد، وفي الحالة الأخيرة ممكن أن نقول إن ما يعيشه البيت الأحمر له علاقة بهذه الحلقة والاحتقان بينهم موجود منذ فترة… وتعرضهم للسخرية عقب ما يتعلق بمسيريهم يؤجج نار الانتقام ممن يتلذذ بتوجيه السهام إليهم”.
ونفى بورقية أن تكون “جرعات العنف قد ازدادت بين هذه الفئة”، بل “العنف كان دائما متجذرا ومشروعا في عقلية وعقيدة مشجع منتم للألترات”، مردفا: “المتغير الأساسي أن الأحداث والمشاجرات بين الألتراس تخلق حساسية تجاه العنف من طرف المواطنين وعموم الناس”.
وخلص إلى أن “المقاربة الأمنية ضرورية لا نقاش فيها لفض النزاعات وإيقاف الجانحين لمنع تطور الأمور إلى ما لا يحمد عقباه”، مستدركا بأن هذه المقاربة “لوحدها بدون حلول اجتماعية، تظل غير ناجعة”، داعيا إلى “مقاربة اجتماعية شاملة تذهب إلى جذور التنشئة الاجتماعية لأفراد الألتراس بما يدمج الأسرة والمدرسة ودور الشباب والنوادي…”.
هوية اللون
حذر محسن بنزاكور، دكتور متخصص في علم النفس الاجتماعي، من انحدار “ظاهرة الألتراس في المجتمع المغربي إلى بعد خطير”، وفق توصيفه، مسجلا أنه “على المستوى العلمي، يمكن تفسيرها ببعدين؛ الأول هوياتي، بمعنى أن هؤلاء لا يعرفون أنفسهم إلا عبر الانتماء لمجموعة مشجعة لناد رياضي بعينه. وبعدما كنا نتحدث عن الهوية الاجتماعية، الآن صرنا في إطار هوية اللون ولم نعد نتحدث عن هوية جغرافية بعينها أو هوية وطنية مغربية…”.
البعد الثاني الخطير جدا، وفق المختص في السيكو-سوسيولوجيا، هو أنه من داخل صراع الهويات هذا يبرز “الانتماء لفريق معين أو كتلة (مجموعة) معينة، ما يخلق نوعا من الإقصاء للآخر”.
مخلفات الإقصاء
قال بنزاكور، في تصريح لجريدة النهار، إن “الهوية المبنية على الإقصاء تفضي بالضرورة إلى سيرورة العنف والعنف المضاد”، شارحا أن “سعة العقل البشري تتقلص، لأن فصائل المشجعين المهووسين بفرق الكرة يستمر تنافسهم وطقوسهم خارج الملاعب وطيلة أيام الأسبوع بشكل فيه هيجان واندفاع خيالي جدا من خلال ترديد شعارات واستعمال الشهب”.
“حرب قبائل يسعى فيها كل طرف إلى البرهنة أنها مسألة حياة أو موت”، هكذا شبه بنزاكور أحداث العنف والشغب الرياضي، معتبرا أن “هذا ما يفسر السلوك العدواني الانتقامي الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى القتل”.
وأضاف أن “تحول اقتصاد كرة القدم إلى صناعة قائمة الذات يزيد الإحساس والافتخار بالانتماء إلى فكر عنصري أو إجرامي (أحيانا)”، متسائلا: “إلى أي حد تظل المؤسسات الرسمية سلبية تجاه هذه الظاهرة التي لم تفلح فيها المقاربة الأمنية لوحدها؟”.
ودعا بنزاكور إلى “مرافقة مباريات الكرة بحملات منتظمة للتوعية والتحسيس من متخصصين في الهوية الانتمائية التي بدأت تحل بدل هوية التنشئة الاجتماعية، نظرا لأن هؤلاء يرون وجودهم لا يتحقق إلا من خلال كرة القدم”.